وقال أيضاً في مَعرض كلامه عن رُخَص السفَر:(إنَّ المشقة قد عُلِّقَ بها من التخفيف ما يناسبها، فإن كانت مشقة مرض وألم يُضِرُّ به جاز معها الفطر والصلاة قاعداً أو على جنب، وذلك نظير قصر العدد، وإن كانت مشقّةَ تعبٍ فمصالح الدنيا والآخرة منوطةٌ بالتعب، ولا راحة لمن لا تعب له بل على قدر التعب تكون الراحة فتناسبت الشريعة في أحكامها ومصالحها بحمد الله ومَنِّه)[إعلام الموقعين ٢/ ١٣١].
قلتُ: فمن آثر الراحة والدعةَ في مقام الجدّ والنصَب، فقد خالف الصواب، وغَفَل عمّا أريد منه، وما أنيط به، ولو كان في البعد عن الجدّ والجَهد في الطاعة بدون مرخّصٍ شرعيٍ مندوحةٌٌٌ لغير ذوي الأعذار، لما قال تعالى لخير خلقه، وأحبّهم إليه:(فإِذا فَرَغْتَ فانْصَبْ)[الانشراح: ٧].
رابعاً: ما ورد في التحذير والتنفير من التشديد والتعسير والمشاقّة والتنطّع، والتعمّق - وما إلى ذلك - على النفس والغير، لا يدلُّ على التخيير (أو التخيُّر) في الأحكام الشرعيّة، لدلالة النصوص على التكليف بالأشدّ في مواضع كثيرة، ولأنّ النسخ بالأشد ممّا جاءت به الشريعة بالاتفاق، فضلاً عن حمل جمهور أهل العلم لنصوص النهي عن التنطّع ونحوه على ما كان فيه مجاوزة للمشروع، كالوصال في الصيام، فهو ممّا نُهي عنه، وإن كان مقدوراً عليه بدون مشقّة، بخلاف الصوم المشروع فلا يسقط عمّن وجَبَ عليه حتى وإن ثبتت مشقّته، ما دام مقدوراً عليه، وقد تقدّم ذكر بعض أقوال أهل العلم في أنّ الأصل في التكليف، أنّه قائمٌ على المشقّة المقدور عليها.
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله:(التشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب، ولا مستحب، بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات، وتارةً باتخاذ ما ليس بمُحرَّم، ولا مكروه، بمنزلة المحرم والمكروه في الطيبات، وعُلِّل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى، شَدَّد الله عليهم لذلك، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة، وفي هذا تنبيه على كراهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لِمِثْل ما عليه النصارى من الرهبانية المبتدعة، وإن كان كثير من عُبَّادِنا قد وقعوا في بعض ذلك، متأولين معذورين، أو غير متأولين ولا معذورين)[اقتضاء الصراط: ١/ ١٠٣].
وقال ابن القيّم رحمه الله:(نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشديد في الدين، وذلك بالزيادة على المشروع، وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه؛ إما بالقدر، وإمَّا بالشَرْع؛ فالتشديد بالشرع كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل، فيلزمه الوفاء به، وبالقدر كفعل أهل الوسواس، فإنهم شدَّدوا على أنفسهم، فشُدِّدَ عليهم القدر، حتى استحكم ذلك، وصار صفةً لازمة لهم)[إغاثة اللهفان: ١/ ١٣٢].
ولا يقال: إنّ أحكام الشريعة تتدرّجُ من الأشدّ إلى الأيسَر، ولا من الأيسر إلى الأشد، باضطراد، لأنّها اشتملت على الأمرين معاً، وهذه المسألة مبسوطة في مباحث النسخ في كتب الأصول، والأمثلة عليها كثيرة من الكتاب والسنّة، ومن استقرأها وقفَ على حقيقةٍ مفادها أنّ التدرّج من الأيسر إلى الأشدّ هو الغالب في النَسخ، وهو ما يصلحُ دليلاً على نقيض ما ذهَب إليه دعاة التيسير، ومؤصّلوه في هذا الزمان.
لقد جاء الشرع بالتشديد بعد الترخيص في مواضع منها ما تقدّم ذِكره من إيجاب الصيام على كلّ مكلّّف بعد أن كان على التخيير في حق من يطيقه.
ونحو ذلك ما جاء في تحريم الخمر من التدرّج من الأيسر إلى الأشد، حيث كان مباحاً على الأصل، ثمّ نزلت الآية لتفيد كراهته بالإشارة على رُبُوِّ إثمه على نفعه، ثمَّ حرّم أثناء الصلاة خاصّة، ثمّ نزل تحريمه في الكتاب، وحدُّ شاربه في السنّة.