للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكذلك الحال في تشديد حدّ الزنا من الإيذاء باللسان واليد، إلى حبس الزواني في البيوت حتى يأتيهن الموت أو يجعل الله لهنّ سبيلاً، ثمّ الجلد للبكر (والتغريب في بعض المذاهب)، والرجم للمحصن.

ونحوه ما كان من النهي عن الجهاد في أوّل الأمر، ثمّ الإذن فيه، ثم إيجابه على غير ذوي الأعذار بعد الهجرة.

والأمثلة غير ما ذكرنا على أن الشرع الحنيف جاء بالتدرّج في التشريع من الأيسر إلى الأشدّ كثيرة، ولو أردنا تتبُّعَها، وذِكرَ أدلّتها وما يتفرّع عنها من مسائل وأحكام، لطال بنا المقام، قبل أن نصير إلى التمام (١).

وهذا يدلّ على نقيض ما تذرّع به الميسِّرون، يسَّر الله لنا ولهم سُبُلَ الهدى، ووقانا مضلات الهوى وموارد الردى.

فإذا أضيف إليه ما قرّرناه آنِفاً، من بُطلان استدلالهم بنصوص الوحيين على الجنوح إلى التيسير على وجه التخيير، ظهر لنا الحق الصريح، وهو إغلاق باب الاجتهاد في مورد النص الصحيح، ووجوب الردّ إلى الله تعالى ورسوله على وجه التسليم والقبول، والله أعلَم وأحكَم.

المقصِد الثاني

أقوال السلف في اختيار أيسَر المذاهب

تذرّع دعاة التيسير في العصر الحديث بما روي عن السلف والأئمة المتّبعين بإحسان، من استحباب الأخذ بالرُخص.

ومن ذلك، قول قتادة رحمه الله: (ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم) [انظره في: تحفة المولود، ص: ٨].

وقول سفيان الثوري رحمه الله: (إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما التشديد فيُحسنه كل أحد) [آداب الفتوى للنووي، ص: ٣٧].

وقول شيخ الإسلام ابن تيميّة: (إذا فعل المؤمن ما أُبيح له قاصداً العدول عن الحرام لحاجته إليه فإنّه يثاب على ذلك) [مجموع الفتاوى: ٧/ ٤٨].

وقول ابن القيّم: (الرخص في العبادات أفضل من الشدائد) [شرح العمدة: ٢/ ٥٤١].

وقول الكمال بن الهمّام في التحرير: (إنّ المقلّد له أن يقلّد من يشاء، وإن أخذ العاميّ في كلّ مسألة بقول مجتهد أخفّ عليه، لا أدري ما يمنعه من النقل أو العقل.

وكون الإنسان يتتبّع ما هو الأخفّ عليه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد، ما علمت من الشرع ذمّه عليه، وكان صلى الله عليه وسلّم يحبّ ما خفّف عن أمّته).

وقول الشاطبي: (المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل إلى طرف الانحلال، والدليل على صحة هذا أنَّه الصراط المستقيم، الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف، الحملُ على التوسط من غير إفراطٍ ولا تفريطٍ، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين) [الموافقات: ٤/ ٢٨٥].

إلى غير ذلك ممّا وقفوا عليه فاحتجّوا به، أو غاب عنهم فأغفلوه.

ولو تأمّلنا ما أوردناه (ولا أعلَم لهم استدلالاً بغيره من أقوال الأئمّة) لما رأينا فيه دليلاً على التيسير الذي يُدندنُ حَوله المعاصرون، فقتادةُ يدعوا إلى الترخّص حيث شرع الله الرخصة، فيقول: (ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم) (ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم) (ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم)، ولا يقول: رخِّصوا باستحسانكم، أو لمجرّد التخفيف عن العباد أو مسايرتهم.


(١) كان التدرّج في التشريع في زمن الوحي، وانقطع بانقطاعه، حيث أكمَلَّ الله دينه، وأتمّ على عباده نعمته، فقال: (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) فليس لأحد بعد ذلك أن يجاري الشارع الحكيم سبحانه في التدرّج في تبليغ حكم الله تعالى، وحُكمِ رسولِه لحديثي العهد بالإسلام أو التوبة، إذ إنّ الأحكام قد استقرّت على ما قضى الله ورسوله، وبالله العصمة.

<<  <  ج: ص:  >  >>