وابن تيميّة يذكر الاستغناء بالحلال عن الحرام، وليس الإفتاء بعدَم حُرمةِ الحرَام أصلاً، أو اختيار قول من يعدل عن التحريم إلى التحليل أو مجرّد الكراهة، وإن ضَعُفَت حُجّته، ووَهت شُبهته.
أمّا ابن القيّم فكلامه في الرخص في العبادات، وهذا لا خلاف فيه، خلافاً لدُعاة التيسير الذين وقعوا في تحليل الحرام، ونفي الكراهة عن المكروه، وشتّان ما بين المذهبين.
وما يُروى عن سفيان رَحمه الله لا يؤخذ منه الترخيص بإسقاط الواجب، أو تحليل المحرّم، ولكنّه موجّه إلى ما ينبغي أن يفتيَ به العالم من وَقع في حرَج متيقّن ليعينه على القيام بما وَجَبَ عليه، لا ليُسقِطه عنه، وذلك كثيراً ما يَقَع في باب الكفّارات، وأداء النذور ونحوها.
وما روي عن ابن عيينة، قال به غيره، ولكنّهم تحوّطوا في ضبط صوَره بالتمثيل له.
قال النووي: (وأما من صحَّ قصدُه , فاحتَسَبَ في طلب حيلةٍ لا شُبهةَ فيها , لتخليصٍ من ورطة يمينٍ ونحوها , فذلك حسن جميل، وعليه يُحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا , كقول سفيان: إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما التشديد فيُحسنه كل أحد) [آداب الفتوى للنووي، ص: ٣٧].
وننبّه هنا إلى أنّ ما رويَ عن السلف الصالح، في الحث على التمسّك بالعزائم، والتحذير من الترخّص المجرّد عن الدليل، أضعاف ما روي عنهم في التيسير والترخيص، والعدل أن يُجمَع بين أقوالهم، لا أن يُسقَط بعضها، أو يُضرَبَ بعضُها ببَعضٍ.
وربّما اتّضحت الصورة أكثر إذا قرّبناها بالتمثيل لما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، فإذا رَجَعنا إلى سيَرِهِم وقفنا على معالم منهجهم في التشديد والتيسير على النفس والغير، ومن أبرز تلك المعالم:
أوّلاً: تشديد العالم على نفسه أكثر ممّا يشدد على غيره.
ولهذا المَعلَم ما يشهد له من السنّة، حيث أرشَد إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه معاذ بنَ جبل رضي الله عنه، حين أمرَه بالإيجاز إذا أمَّ الناسَ في الصلاة، ويقتضي هذا الترخيص له في الإطالة إذا صلى فذاً، كما في الصحيحين وغيرهما.
ثانياً: عُرِف عن السلف الصالح، من الصحابةِ الكرام ومن بَعدَهُم التشديد على الناس فيما تساهلوا فيه، وهذا خلاف ما عليه ميسِّرة العصر، من التيسير فيما كثُر وقوع الناس فيه.
ومن ذلك قول عمر الفاروق رضي الله عنه: (فلو أمضيناه عليهم) حينما حكمَ بإيقاع طلاق المجلس ثلاثاً، وأمضاه على الناس، لأنّهم استعجلوا بعد أن كانت لهم فيه أناة.
وكذلك تضمين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للصنّاع، بعد أن فسدت الذمم وتغيرت النفوس.
ألا ترى أنّ عمرَ وعليَّ رضي الله عنهما قد بالغا في التشديد في هاتين المسألتين، استحساناً، رغم وجود ما يراه الميسِّرون المعاصرون مقتضياً للتيسير، ومستلزماً للتخفيف مراعاةً ظروف المجتمع، ورفعاً للحَرَج عن الناس.
ثالثاً: أنّ من السلف من كان يفتي بالفتوى، أو يقضي بالقضاء، ثمّ يرجع عنه إذا بلغه ما هو أقوى منه دليلاً وأقوَم سبيلاً، إذ إنّ العبرة عنهم بما جاء من عند الله، وثبت عن رسول الله، وليس بالتيسير أو التشديد.