للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أخرج مسلم في كتاب الحج من صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أنه كان يفتي بالمتعة فقال له رجُل: رويدك بعض فتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، فقال: يا أيها الناس: من كنا قد أفتيناه فتيا فليتئد، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فأتموا، قال: فقدم عمر، فذكرت ذلك له، فقال: أن تأخذ بكتاب الله فإن الله تعالى قال:) وَأَتِمُّوُا الحَجَّ والعُمْرَةَ لله ([البقرة: ١٩٦]، وأن تأخذ بسنة رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، فإن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - لم يحل حتى نحر الهدي).

والأمثلة غير هذا في رجوعهم إلى الحقّ كثيرة، فهل في دعاة اليوم من يلزم غرزَ السابقين، وينحو نحوَهُم، فيقف عند الدليل، ويرجع إليه إن بلغه، ولو بعد حين، ولا يجد غضاضةً في أن يقول: (تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي)؟

رابعاً: كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يدورون مع الدليل حيثُ دارَ، فمنهم الميسِّر ومنهم المشدد، ولكن عن علم وبصيرة ودليل.

وكلُّهُم مِنْ رسولِ اللهِ مُقْتَبِسٌ ... غرفاً مِنَ البَحرِ أو رَشْفاً مِنَ الدِيَمِ

وإن كان فيهم من يلتزم في عمله الأحوط في مقابل من يجنح إلى الأيسر، ولكنّ الحامل لكلٍّ منهما على مذهبه لا يخرج عن الاستدلال بما ثبت عنده عن نبيِّ الهُدى - صلى الله عليه وسلم -.

ويحسن التمثيل لاختلاف آراء الصحابة في هذا الأمر بما كان عليه الصاحبان الإمامان: عبد الله بن عبّاس، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، فقد كان (أحدهما يميل إلى التشديد والآخر إلى الترخيص وذلك في غير مسألة، وعبد الله بن عمر كان يأخذ من التشديدات بأشياء لا يوافقه عليها الصحابة فكان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمي من ذلك، وكان إذا مسح رأسه أفرد أذنيه بماء جديد، وكان يمنع من دخول الحمام، وكان إذا دخله اغتسل منه، وابن عباس كان يدخل الحمام، وكان ابن عمر يتيمم بضربتين ضربةٍ للوجه، وضربةٍ لليدين إلى المرفقين، ولا يقتصر على ضربة واحدة، ولا على الكفين، وكان ابن عباس يخالفه، ويقول: التيمم ضربةٌ للوجه، والكفين، وكان ابن عمر يتوضأ من قُبلةِ امرأتِه، ويُفتي بذلك، وكان إذا قبل أولاده تمضمض ثم صلى، وكان ابن عباس يقول: ما أبالي قبَّلتُها أو شممت ريحاناً، وكان يأمر من ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى أن يُتِمَّها، ثم يصلي الصلاة التي ذكرها، ثم يعيد الصلاة التي كان فيها ... والمقصود أن عبد الله بن عمر كان يسلك طريق التشديد والاحتياط) [زاد المعاد: ٢/ ٤٧ و ٤٨].

قلتُ: ومع كلِّ ما كان يذهب إليه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من التشديد ولزوم الأحوَط، لم يغمز قناته أحدٌ من السلف أو الخلف، ولم يصمه أحدٌ بوصمة التعسير، على وجه التخطئة والتنفير، بل غاية ما ذَهَبَ إليه مخالفوه هو عدَم موافقته في تشديداته، مع اعتبارها أمارةً على وَرَعه وحُسن اتّباعه، وعُذر مَن ذهبَ مذهبَه من الأتباع ما داموا يدورون مع الدليل مدارَه.

ولم يكن يسعهم حتى تمني خلافه فضلاً عن تبريره أو تسويغ القول والعمل به.

قال أبو عبد الله الزركشي [في المنثور: ١/ ٢٠، ٢١] وهو يُعدِّدُ أنواع التمني ويعرض حكم الشرع في كلٍّ منها: السابع: تمني خلاف الأحكام الشرعية لمجرد التشهي ... قال الإمام الشافعي في (الأم) وقد روى عن عمر: (لا يُسترق عربي) قال الشافعي رحمه الله: لولا أنَّا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون هذا هكذا، وكأنه أراد تغير الأحكام ولم يرد أن التمني كله حرام).

<<  <  ج: ص:  >  >>