ومن آلات العلم، الذكاء، وسرعة الفهم؛ فإن الإنسان إذا رزقه الله تعالى الذكاء، سهل عليه طلب العلم، وعقل مسائله؛ وإذا لم يكن كذلك لا يستطيع أن يحقق بغيته. قال ابن المعتز:"كما لا ينبت المطرُ الكثيرُ الصخرَ، كذلك لا ينفع البليد كثرة التعليم" وبهذا نعلم أن قلة الفقه في الدين تحصل بسبب نقص الآلة، وعدم التفقه في نصوص الوحي، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم بالطرق المعتبرة. فالإنسان إذا طلب العلم ممن لم ترسخ في العلم قدمه، أو كان صاحب هوى وبدعة، أو استقل بنفسه في الطلب، واكتفى بمطالعة الكتب، كان حريا ألا يصل إلى مرتبة الفقه في دين الله روى الخطيب البغدادي عن سليمان بن موسى قال:"لا تقرؤا القرآن على المُصَحِّفين، ولا تأخذوا العلم من الصَّحفيين" وروى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سألت أبي عن الرجل تكون عنده الكتب المصنفة، فيها قول رسول صلى الله عليه وسلم، واختلاف الصحابة والتابعين، وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك، وبالإسناد القوي من الضعيف، فيجوز له أن يعمل بما شاء، ويتخير ما أحب منها؛ يفتي به ويعمل به؟ قال: لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها، فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم ".
إن الإسلام دين يدان به لله عز وجل، وهذا الدين لا يتم إلا بعلم مستقى من مشكاة النبوة؛ ولذلك فإن من الواجب على الإنسان أن يجتهد في اختيار من يأخذ عنه العلم؛ كما قال الإمام مالك: " إن هذا العلم دين، فانظروا عمَّن تأخذون دينكم ".
بعض الآثار المترتبة على قلة الفقه في الدين:
١. ترؤس الجهّال:
إن من أعظم ما تبتلى به الأمة، ويفرق كلمتها، ويشتت صفها أن يتصدى لإرشاد الناس، ودعوتهم، وتعليمهم أمور دينهم من لم يكن من الراسخين في العلم، أو كان صاحب هوى وبدعة؛ لأن مثل هذا يفسد أكثر مما يصلح. أخرج البخاري عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو بن العاص قال: سَمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ اللهَ لا يَقبِضُ العِلمَ انتزِاعاً يَنتزِعُهُ من العِبادِ، ولكنْ يَقبِضُ العِلمَ بقَبض العُلماءِ، حتى إِذا لم يُبقِ عالماً اتخذَ الناسُ رُؤُوساً جُهَّالاً فسُئلوا فأفْتَوا بغير علمِ فضلُّوا وأضَلُّوا).
٢. عدم معرفة مقاصد الشرع:
وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا عندما قال له الرجل: اتق الله يا محمد!، فقال صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا - أَوْ في عَقِبِ هَذَا - قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ)، فهم أخذوا أنفسهم بقراءة القرآن، ولم يتفقهوا فيه، ولم يعرفوا مقاصده. إن الله سبحانه وتعالى أنزل كتابه بلسان عربي مبين، وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك، ولذلك فإن طلب فهم القرآن إنما يكون من هذا الطريق، فإنه لا يعلم من إيضاح جُمَلِ عِلمِ الكتاب أحدٌ جهل لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها. ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانه.
وإذا كان الأمر كذلك، فيجب على من يتكلم في القرآن والسنة أن يكون له بصر بلسان العرب، ومعرفة بأساليبهم، وطرائق كلامهم. قال الشاطبي "فإذا كان الأمر على هذا لزم كل من أراد أن ينظر في الكتاب والسنة أن يتعلم الكلام الذي أديت به، وأن لا يحسن ظنه بنفسه قبل الشهادة له من أهل العربية بأنه يستحق النظر، وأن لا يستقل بنفسه في المسائل المشكلة التي لم يحط بها علمه دون أن يسأل عنها من هو من أهلها. فإن ثبت على هذه الوصاة، كان ـ إن شاء الله ـ موافقا لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام".