إن طريق الأئمة الراسخين في العلم النظر في جملة أدلة الشريعة، ومن ثم استخراج الحكم؛ لأن أدلة الشرع كلية وجزئية، وعام وخاص، ومطلق ومقيد، فاستخراج حكم قضية من القضايا يحتاج إلى النظر في الأدلة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامها المرتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر ببينها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها؛ لأن أخذ الحكم من دليلٍ دون نظرٍ إلى ما يعارضه، أو يقيده، أو يخصصه، أو تطبيق الحكم دون النظر في تحقق المناط، يؤدي إلى نتائج خاطئة، وأحكام غير صحيحة، وضرب للأدلة ببعضها.
لقد كانت نتيجة مثل هذا النظر في الأدلة مؤلمة وقاسية على الأمة الإسلامية على امتداد تاريخها، فقد أُخرِج أقوام من دين الله، وسُفكت دماء، واستحلت أموال، وانتهكت أعراض، وخُربت أوطان، وتسلط ظلوم غشوم طاغ على بلاد المسلمين، وأحال أمنهم خوفا، وعزهم ذلا، وغناهم فقرا.
٥. عدم النظر إلى مآلات الأفعال:
قاعدة الشريعة التي لا تنخرم، تحقيق المصالح ودرء المفاسد؛ ولذلك كان النظر إلى ما يؤول إليه الفعل، وهل يحقق مصلحة، أو يدرأ مفسدة؟ من الفقه في دين الله.
والأصل في ذلك قوله تبارك وتعالى:{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الأنعام:١٠٨)، فمنع الله تعالى في كتابه أحدا أن يفعل فعلا جائزا يؤدي إلى محظور.
يقول الشاطبي - رحمه الله -: " النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا؛ كانت الأفعال موافقة، أو مخالفة. وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام، إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل؛ (فقد يكون) مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه. وقد يكون غير مشروع؛ لمفسدة تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوى المصلحة، أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية. وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية، ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي، أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية. وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة".
وعملا بهذا الأصل لم يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم عَبْد اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ حينما قال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، وعلل ذلك بقوله:(لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ) ولم يهدم البيت ثم يعيده على بناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقال لعَائِشَةَ - رضي الله عنها-: (لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ في الْبَيْتِ، وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ في الأَرْضِ)، وحرُم تغيير المنكر إذا كان يستلزم ما هو أعظم منه شرا. ولو تأمل المنصف في كثير من الأحداث التي عصفت بالأمة الإسلامية؛ في الماضي، والحاضر، لوجد أن سببها يرجع في الغالب إلى إهمال هذا الأصل.
إن إهمال النظر إلى ما يؤول إليه الفعل، يفسر لنا ما نراه من بعض الناس من حماس زائد، واندفاع متهور، وعواطف ملتهبة، عند وقوع بعض الأحداث التي تعصف بالأمة؛ فترى أولئك يفقدون الحكمة، ويسارعون في رد الفعل دون تروٍّ، ويتسابقون في اقتحام الميادين الصعبة، والمسالك الوعرة، دون تثبت، ولا مشاورة كبير أو صغير. وبعد أن تنجلي الأحداث، وتهدأ العاصفة يتبين لأولئك الغيارى! أن عاقبة سعيهم لم تكن محمودة، وان ثمرة جهدهم لم تكن بقدر ما بذلوه من جهد، وأن الأمر لم يكن بمثل ما تصوروه، وأن العاقبة كانت أشد وقعا، وأعمق أثرا، وأكثرا ضررا.