ويستطيع المراقب بكل بساطة أن يقرأ في الخط البياني لهذه المضاعفات المتنامية دور التابلويد الإلكتروني في تصعيد هذا الانحراف, بمعنى أن أكثر هذه التورمات تضخمت داخل هذا الخطاب في سياق التفاعلات الحادة والاستفزاز المتبادل مع المنتديات الإنترنتية المتخصصة في الإسفاف والتجني، والمتقنعة بلبوس الاحتساب الفكري, بحيث صار الخطاب المدني الجديد تدفعه مشاعر النكاية والعناد ضد البغي الإلكتروني إلى الإمعان في مناقضة الرؤية الإسلامية, ولا أظن عاقلاً ينتقم مِنْ ربِّ خصمه لكن هذا ما جرى للأسف!
على أية حال .. أظن أن أبسط مقتضيات الوفاء والحب لهؤلاء الشباب هو المبادرة بالمصارحة بمخاطر هذه التطورات, علَّنا نستعيد وعينا في زحام السجال, ونستيقظ من أن تتجارى بنا مغاضبة الخصوم ومشاحنة الفرقاء إلى خدش علاقتنا بالله ورسوله وخسارة رأسمالنا الحقيقي.
ولا سيما أن هذا الخطاب الجديد خطاب نشط ومتنامٍ في أوساط الشباب المولعين بالثقافة وذوي المنزع الفكري, ويحظى بحفاوة المؤسسات الإعلامية من صحف وفضائيات وغيرها, حيث ستظل فرص الشاشة والعمود الصحفي مشهداً خلاباً لا تقاومه غريزة تحقيق الذات المتوقدة بداية العمر فيرضخ المثقف/الشاب لشروطها ليحتفظ بها.
هذه المشهد الأليم يفرض قراءته وتأمله, ومن ثم تحليل الفروض الداخلية لهذا الخطاب التي قادته إلى هذه المآلات الموحشة, بهدف إرضاء الله سبحانه وتعالى, وتواصياً بالحق مع كثير من متابعي هذا الاتجاه, وتعزيزاً للثقة الدعوية في الأوساط التربوية والعلمية للاتجاه الإسلامي أمام سلاطة هذا الخطاب وتجريحه المستمر ودعايته المضادة, ونشاطه في التعبئة الإعلامية وتأليب المؤسسات الأمنية ضد العمل الدعوي والتربوي الإسلامي.
والواقع أن هذا الخطاب المدني الجديد يصفه بعض مراقبيه بتصنيفات لا يرضاها منتجو هذا الخطاب ويعدونها "شتيمة خصوم" أكثر من كونها "تصنيفاً إجرائياً" لذلك آثرنا أن نقفز هذه التصنيفات, ونتعرف إلى هذا الخطاب من خلال معجم مفاهيمه المحورية التي تشكل نسيجه الخاص, كمفهوم الحضارة والانفتاح والآخر والتسامح والنسبية والاستنارة والنهضة والمواطنة والأنسنة ونبذ الأدلجة والإقصاء والوصاية والتسييس والدوغمائية والراديكالية ... الخ
حيث تحولت هذه المفاهيم من أدوات دلالية محضة إلى "لافتات فكرية" تدفع باتجاهٍ مشترَك ذي قسمات خاصة, حيث تم شحنها بدلالات جديدة ضمن سياق سجالنا المحلي بحيث صارت تحمل مضموناً مذهبياً مترابطاً أكثر من كونها مجرد تقنيات تفسيرية حرة.
ولم نتجاوز تلك التصنيفات إلا بهدف تحاشي اللبس وسوء الفهم, إذ غرضنا هاهنا الاجتهاد في تقديم مناقشة علمية مختصرة للشبكة المفاهيمية التي تغذي هذا الخطاب وتمده بمنظوره الخاص, وليس هدف هذه الورقة النقدية -يعلم الله ذلك- التجريح والإيذاء, أو إسقاط شخصيات بعينها, أو الانحياز لجبهة ما, وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للتجرد ويعيننا على تجنب الهوى والتحامل.
ومما يعنينا الإشارة إليه هنا بشكل خاص أننا تجاوزنا التمثيل أو ذكر شخصيات بعينها من هذا الخطاب؛ تفادياً للتعميم، ذلك أننا سنناقش تصورات عامة يتفاوت كتّاب هذا التيار تفاوتاً كبيراً في تبنيها والاقتراب أو الابتعاد عنها, فمستقلٌ مِنْ هذه الظواهر ومستكثر, فحشر الأسماء وإقحامها في سياق واحد يوهم اشتراكها في التفاصيل, الأمر الذي يتناقض مع فريضة القسط ومقتضيات الإنصاف.
وقد قسمت هذه الورقة إلى جزأين:
أولهما: في قياس علاقة هذا الخطاب المدني بأصول الوحي.
والجزء الثاني: في قياس علاقة هذا الخطاب المدني بالفكر الحديث.