فهذا هو الجزء الأول منهما وسيتبعه بإذن الله الجزء الثاني, ونبتدئ الجزء الأول بعرض موجز حول السياق التاريخي لهذه الظاهرة, وهذا هو أوان الشروع في المقصود.
قسمات الانقلاب المعياري:
آل الخطاب المدني -ضمن ديناميكية تطوراته المؤلمة التي أشرنا إليها- إلى حالة انقلاب معياري، حتى بتنا اليوم وكأننا نشهد "إعادة تقييم" جذرية وشاملة تمس العناصر الجوهرية لرؤيتنا الفكرية, فأمامنا اليوم حالة انقلاب حاد في "جدول القيم" لا نستطيع أن نغض أبصارنا عنها أو أن نتجاهلها, حتى أصبح "هرم الأولويات" يقف مقلوباً على رأسه!
لقد طالت هذه الانقلابات المفاهيمية: الموقف من التراث, والموقف من الغرب, والموقف من المؤسسات الدعوية, والموقف من خصوم الحل الإسلامي, والموقف من واقع مجتمعنا المعاصر, والموقف من الدولة العربية الحديثة ... بما يعني أن إبرة البوصلة الفكرية قد فقدت قوتها المغناطيسية السابقة تماماً, وكأن دخان سبتمبر قد مد ذراعه إلينا وقلب ساعة الرمل ليعيد دبيبنا إلى الوراء.
لقد تم إنزال التراث من كابينة القيادة إلى قفص الاتهام! فبعد أن كانت هذه الشريحة الشبابية تنظر إلى "التراث الإسلامي" باعتباره النموذج المشع الذي تستلهم منه المثل والقيم وينتصب أمامه المرء بسكينة الانتماء، أصبح بعض هؤلاء الشباب ينظرون إلى التراث باعتباره ألبوم التصرفات البدائية المخجلة الذي لا يجب أن يُفتح إلا مع ابتسامة اعتذار, مع استخفاف عميق بمواقف رجالاته وأعلامه.
وفي أحسن الأحوال أصبح لا يُقبل من التراث الإسلامي الضخم أيُّ دور إلا أن يزودنا بالأسانيد والحيثيات التي تؤكد نتائج "عصر الأنوار" ليس إلا!
ولذلك يدعو كثير من منتجي هذا الخطاب إلى قراءة "نصوص الوحي" ونصوص "التراث الإسلامي" قراءة مدنية, بمعنى قراءة "موجهة" تبحث داخل هذه النصوص عن أية مضامين تدعم "المدنية" ثم تؤَوِّل ما يتعارض معها, وتصبح فرادة الفقيه داخل هذا الاتجاه تابعة لقدرته في توفير الغطاء الشرعي لمنتجات الحضارة وبحسب إمكانياته في تأويل ما يتعارض معها وتخريجه بشتى المخارج, بدل أن تكون الدعوة إلى قراءة الوحي قراءة "صادقة" تتجرد للبحث الدقيق عن المراد الإلهي!
بمعنى آخر: تحويل الوحي من "حاكم على الحضارة" إلى مجرد "محام عن منتجاتها" يبررها ويدافع عنها ولا يُقبل منه دورٌ غير ذلك! وليس يخفى أن الحكم نوع من السيادة، أما المحاماة عن الغير فحالة تبع يقاس نجاحها بإمكانيات التبرير والتسويغ.
والسؤال المؤلم الذي يفرض نفسه هاهنا: ما هي المساهمة الحقيقية التي يمكن أن نقدمها للعالم إذا كان قصارى ما نقوله للغرب هو إن ممارساتكم وسلوكياتكم يمكن تخريجها على بعض الأقوال الفقهية لدينا, أو يحتمل أن تدل عليها بعض الأدلة؟ هم يمارسون هذه الممارسات قبل أن يعرفونا أصلاً.
كما قفزت صورة الغرب من شارع الانحطاط إلى منصة الأستاذ القديس الذي لا يراجع فيما يقول, وإذا لم نقتنع بما يقوله فذلك لعيب في فهمنا نحن لا لعيب فيه هو لا سمح الله!
وبعد أن كان بعض هؤلاء الشباب يتشرفون بالانتماء للاتجاه الإسلامي ويبرزونه كهوية شخصية في الحياة العامة، أصبح بعضهم ينظر إليه باعتباره عبأً على المجتمع ليس يبهجهم كثيراً تناميه وتغلغله الاجتماعي!