هذا الفارق هو بالضبط مصدر الجاذبية والإثارة لدى القارئ الإسلامي, وهي اللغة التي يفهمها جيداً, لقد امتص وتشرب هؤلاء الشباب بصورة ضمنية كثيراً من المفاهيم المشبعة ببنية علمانية مضمرة, أو التي تدفع باتجاه تعزيز التصورات العلمانية, مثل مفهوم: عصر التدوين, والتنصيص السياسي, والعقل المستقيل, والأرثوذكسية الإسلامية, والنص كمنتج ثقافي, وميثية القرآن, وغيرها من أدوات التفكير العلماني.
على أية حال تظل المدرسة الفرانكفونية/المغاربية المعاصرة هي الأكثر تعبيراً عن هذا الشكل من الخطاب, واهتمامها بموضوعيها الرئيسين -إعادة تأويل التراث والتحليل الأنثروبولوجي للحركة الإسلامية- كان مصدر الجاذبية والإغراء الذي حقق لها النفاذ إلى أسوار الداخل الإسلامي, لتنتهي بحالة استعمار ثقافي.
والحقيقة أن لحظة انتقال هذه الشريحة الشبابية بين المدرستين لم تكن مجرد لحظة تفاعل طبيعي مع رافد ثقافي معين, بل شهدت ارتجاجات فكرية مذهلة كانت نتيجة لصدمة انقلاب السؤال المركزي بين المدرستين.
فالسؤال المركزي في مدرسة الفكر الإسلامي كان سؤال "انتصار الإسلام" ويدخل في ذلك سائر ما تم تطويره من "مفاهيم دعوية" تشكل نسيج هذا الفكر: كمفهوم الحل الإسلامي, وتحكيم الشريعة, والتزكية الإيمانية, والعمل الجماعي, وفقه الواقع, والتعدد التنظيمي, والعمل التربوي, وإنكار المنكرات, وتوعية الجاليات, وتفعيل المساجد, والأمن الفكري, وحراسة الفضيلة, والإعلام الإسلامي, وتضميد جراحات المسلمين, وإعداد القوة, ونحوها من المفاهيم الإسلامية وصيغ العلاقات العريقة في هذا الخطاب.
أما السؤال المركزي للمدرسة الفرانكفونية فقد كان "سؤال الحضارة" ومن ثم محاسبة التراث, والاتجاه الإسلامي, والمجتمع العربي, والدولة العربية الحديثة: على أساس الاقتراب والابتعاد عن "النموذج الغربي الحديث", حيث كان النموذج الغربي الحديث هو المعيار الضمني غير المعلن, وإن كان النص المغاربي في كثير من الأحيان يتظاهر بخلاف ذلك.
هذه الصدمة بخطاب المدرسة الفرانكفونية, وسطوة جهازها المفاهيمي, واكتظاظ لغتها الباذخة, وترسانة شواهدها التراثية, وما يتناثر على جنبات نصوصها من أعلام أوروبية رنانة, وما تحيل إليه من تجربة غربية منتصرة, وما تنطوي عليه بعض فقراتها من هالة الغموض المبهر, وشحنها المستمر والمضمر ضد كل ما هو "لا غربي": نجحت في اختطاف التفكير المتوازن, وتصديع الانتماء الدعوي, وإخضاع القارئ لمنطلقاتها الضمنية, والاستسلام لزواياها الخاصة في النظر والقراءة وتقييم الأمور, والتفكير في العالم من خلال شبكتها المفاهيمية ذاتها.
مما جعل انتقال هذه الشريحة الشبابية -موضع الدراسة- بين المدرستين ليس انتقالاً خطياً تراكمياً من مدرسة إلى التي تليها, بقدر ما كان استقالة فكرية غير ودية من معسكر سابق وتسجيل لعضوية جديدة في المعسكر المقابل.
ويجب أن نعترف أن نزول الخطاب الإسلامي من "أعواد المنبر" فترة التسعينات إلى "قفص الاتهام" بعد سبتمبر بدد شيئاً من جاذبيته الاجتماعية, وفتح المجال لتسويق خطابات أخرى لا تتكئ على نجاحها الخاص, بقدر ما تتكئ على غياب منافسها العنيد.
وهذا يعني -كما سبق- أن الخطاب الإسلامي المعاصر سيسترد عافيته وموقعه الاجتماعي الريادي بمجرد تجاوز هذه الأزمة والتخلص من الآثار الأمنية الحادة لحادثة سبتمبر.
قانون المتوالية الفكرية: