الواقع أن "قانون المتوالية الفكرية" كنموذج تفسيري سيساعدنا كثيرا في فهم تطورات ظاهرة الخطاب المدني وكيف بدأت بإشكاليات تجديدية اجتهادية مشكورة ثم انتهى كثير من كتابها إلى مآلات مؤلمة مذمومة, فجمهور هؤلاء الشباب حين بدأ في قراءة إنتاجات المدرسة الفرانكفونية كان مدفوعاً في البداية بمقصد حسن نبيل، وهو تنمية إمكانياته التحليلية وامتلاك الأدوات الفكرية بهدف تعزيز الخطاب الإسلامي ودعم حجيته, ولم يفرغ كثير منهم من ازدراد هذه الأبحاث إلا وقد انقسموا فريقين:
فأما الأول فتيقظ لبطلان الأساس الضمني الذي انبنت عليه هذه الأبحاث وهو غائية الحضارة أو مركزية المدنية, فانبنى على ذلك بطلان أكثر النتائج التي تضمنتها هذه الأبحاث من تبخيس التراث وتوقير الغرب, ومن ثم التنبه للأداتين الأثيرتين في هذه المدرسة لتهشيم التراث وهما أداتي (التسييس والمديونية).
أما أداة "التسييس" فتعني إعادة التفسير السياسي للنظريات الشرعية وتحركات أعلام التراث ومحاولة ربطها بصراعات سياسية تحت شعار الأنسنة.
أما أداة "المديونية" فتعني محاولة ربط سائر المفاهيم والأصول الشرعية التي صاغها فقهاء التراث بالثقافات السابقة للإسلام وتصويرها كمجرد اقتراض ثقافي من الثقافة الهرمسية أو الغنوصية أو الفارسية أو اليونانية.
أما الفريق الآخر -وهم الأكثر- فقد استسلم لا شعورياً للأساس الضمني في هذه الأبحاث وهو مركزية المدنية لكنه حاول -بحسن نية أيضاً- أن يذب عن دينه وتراثه وأمته بإثبات أن الوحي والتراث يتضمنان أولوية المدنية والحضارة أصلاً, ومن ثم تحول إلى هاجس التفسير المدني للتراث فأخذ يبحث داخل مضامين الوحي والتراث عن أية مشاهد تتوافق مع المدنية الحديثة, وانساق في نقد كل ما لا يتوافق معها داخل التراث.
فبداية كثير من هؤلاء الكتاب -شهادةً لله- كانت بداية حسنة وهي أنهم رأوا أنه لا يمكن نشر رسالتنا الإسلامية وعزة مجتمعنا إلا بالإمكانيات والقدرات الحديثة, ثم تجارى بهم البحث في الحضارة والنهضة والإمكانيات الحديثة حتى جعلوها غاية في حد ذاتها بشكل عملي ضمني, ثم لما رأوا نقد الغرب يحُوْل كثيراً بين الشاب وبين الحضارة الغربية ويهز مرجعيتها، بالغوا في التماس المعاذير لانحرافات الحضارة الغربية, وتلمسوا الأدلة التي توافق ما هم عليه, ثم لما انهمكوا في تكييف الأحكام وفق نتائج الغرب اصطدموا بكثير من المفاهيم الشرعية ذات المنزع الديني/الغيبي كالإيمانيات والشعائر والأحكام الشرعية التفصيلية والتصورات الغيبية ونحوها, فحاول الكثير منهم جعل كل هذه الشرائع مقصودها النهائي أصلاً عمارة الأرض وإقامة الحضارة, وهكذا بدأت هذه المفاهيم الشرعية تتناقص قيمتها في ظل "وسيليتها" المحضة, وتتضخم قيمة المدنية الغربية بحكم تحقيقها للمقصد النهائي وهو الحضارة, ثم تطور الأمر من الانبهار بالحضارة الغربية المعاصرة إلى محاسبة الحركة الإسلامية والقسوة عليها طبقاً للاقتراب والابتعاد عن الحضارة الغربية المعاصرة, ونشأ عن ذلك ظواهر انفصال وانشقاق ترتب عليها الابتعاد عن مقابس الإيمان والتخول بالذكرى، فأخذت جذوة الإيمان تخبو يوماً بعد يوم, وارتخى الانقياد وفقدت العبودية معناها.
ثم تطور الأمر بشكل أكثر سوءً، وأصبح البعض يلتمس العوائق في مضامين الشريعة ذاتها, حتى وصل بعضهم إلى أن المشكلة في "السنة النبوية" وأنها صرفت الناس عن قضية الحضارة إلى الإغراق في التفاصيل الصغيرة, وهكذا يتسلسل الأمر من سيء إلى أسوأ.