ربما كان أحسن لمشروعه، أن يقر بما هو كالشمس في ظهوره من التباين ما بين المنهجين، وفي استعمال مبدأ: "الضرورة تبيح المحظورة". مندوحة عن ذلك التحريف. فقد أجاز علماء الإسلام الدخول في الديمقراطيات القائمة بإعمال هذا المبدأ واستندت إليه، وربما يجيزون حتى إنشاءها وابتداءها إذا لم يكن ثمة سبيل لردع الظالم إلا من طريقها، باستعمال مبدأ: "ارتكاب أدنى الضررين".
كل هذه المخارج الشرعية غفل عنها التنويري، مصرا على شرعنة الديقراطية، لأحد سببين:
- إما لأنه جاهل بالطرق الشرعية لحل المشكلات المعاصرة.
- أو أن استغراقه في مشاريع التنوير، وإعجابه المتنامي لكل ما هو غربي، عطل عقله عن الرجوع إلى مصادر الشريعة، وأنساه قاعدة كبرى لا تغيب عن بال القرآني المهتدي بالنور الإلهي: أن من لم يحكم بما أنزل الله حكم بغيره، وهو كفر، والديمقراطية لا شك أنها ليس حكم الله، بل حكم الشعب.
أما المشروع التنويري لإضعاف أو المؤسسة الدينية الرسمية أو المستقلة على حد سواء، فتلك الخطوة المستكرهة، والتنكر لأفضال من جعل للتنوريين قيمة ولو في نفوسهم.
فهؤلاء التنورييون هم ذوو ماض وخلفية إسلامية لا تخفى، نشؤوا على أيدي العلماء، وبما عندهم من علم نالوا الفهم والإدراك، ومن دونهم ما كانت لهم همة في شيء يذكر، إلا أن يشاء الله، غير أنهم في كل الأحوال لم يدخلوا في الوعي بحال الأمة وأسباب الوهن والضعف وتسلط العدو إلا بالتلمذة على أيديهم بالعلوم الشرعية والدعوية والثقافية.
وبعد أن قوي عودهم - أو هكذا ظنوا- ارتدوا على أساتذتهم بسوء الأدب، والطعن في صحة دينهم، واتهامهم بالممالئة للسلطان، وفي أقل أحوالهم أنهم مغفلون لا يدركون ما يدركه أهل التنوير من أمر الواقع.
الخطأ في هذا، وسم جميع العلماء بوسم واحد، والغفلة التامة عما لكثير منهم من أدوار حية في معالجة القضايا العامة، منها المعلن، ومنها غير المعلن.
والخطأ في هذا، مطالبة كل عالم بعينه أن يكون مثالا للتضحية والإنكار العلني في القضايا التي يحددها أهل التنوير خاصة، وإلا فهو وغيره من أسباب تردي الأمة!!.
لا ينظرون إليهم من زاوية أخرى؛ زاوية الرأي الآخر، فربما يرى رأيا غير ما يراه أهل التنوير، اتسعت صدورهم لكل الآراء، حتى رأي الضالين والمغضوب عليهم إلا الذين أنعم الله عليهم.
لهذه المشكلة حل يسير، هو: أن يعمل أهل التنوير في خدمة قضية التنوير دون همز أو لمز في مواقف الذين أفنوا أعمارهم في تعلم علوم الشريعة وتعليمها، ويكونوا كأحد الأعلام الذي قال كلمة أخذ ماءها من حكمة إلهية:
"نعذر العلماء إذا قصروا في معرفة أمور الواقع، والأمة بعضها يكمل بعضا".
هذا كلام من يفهم مكانة العلماء، ويقدر شيبتهم في الإسلام على القرآن والسنة، لا يغالي فيهم، ولا ينفي حقهم ومكانتهم، تكلم به مدركا أحوال الأمة وما تحتاجه للنهضة، علم أن من ذلك: عدم إهدار جهود ومكانة أساتذة الدين. تكلم به، وأكثر هؤلاء التنوريين لم يناهزوا الحلم إلا توّاً؟!.
أما صنيع التنويري فهو مستكره، يريد إسقاط من يحمل القرآن والسنة بفهم السلف رأسا، كهول التنوير يقصد ذلك قصدا، والشباب منهم لا يدركون جناية ما يمارسون، حماستهم اللاواعية تقودهم بغرور وعمى إلا قليلا منهم، لم يصطبغوا بصبغة التنوير كليا.