للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من الأمور التي يستعملها أهل التنوير لإسقاط العلماء، اتهامهم بممالئة السلطة، والذي لا ريب في أن مواقف العلماء من السلطة متنوعة مختلفة، لا يصح جمعهم في بوتقة واحدة، غير أن أكثرهم لهم رأي في طريقة التغيير والإصلاح، لا يتفق في مجملها مع طريقة التنوريين، الذين ينطلقون من غير ضوابط واضحة، سوى مجرد التغيير، فهم يؤيدون تغيير السلطة دون دراسة العواقب والنتائج، بل ويفرضون نتائج إيجابية ابتداء عن طريق التخمين والظن لا أكثر، وهذا بدا جليا في تناولهم للثورات العربية، والأيام تكشف أن كل عملية تغيير غير محسوبة، تحمل معها آثارا أسوأ مما كان، فبحسب تاريخ الثورات، لم تأت ثورة بالجديد الأحسن، إنما الأسوأ، فهل ستكون الثورات العربية استثناءا في التاريخ؟.

مضى حتى اليوم أكثر من نصف عام لم تحقق ثورة أهدافها مع تعاظم التضحيات ودخول بعضها في حرب أهلية طاحنة، هذه النتائج تثبت حدس العلماء.

لا يلزم عن الموقف الرافض لتغيير السلطة عن طريق المظاهرات، ممالئة ووقوفا كاملا مع السلطة، كما لا يلزم عن الموافقة نفاق أو تلاعب بالدين، ويمكن أن يفسر في نطاق الاجتهاد المحض، لكن التنويري يضيق باجتهادات العلماء الذين تعلم على أيديهم، ولا يضيق بالمخالف للسنة أو الملة.

هذا، وإن وجود ممالئين باعوا دينهم بعرض من الدنيا حقيقة لا ينكرها أحد، لكن الحذر من تهمة أحد بشخصه أو تعميمه على الجميع.

الإصلاح هم لازم لكل مخلص صادق، ليس التنويري وحده، حيث إن كثيرا من الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل والدينية، تعتورها آفات لا يصح السكوت عنها، والساكت عن الحق شيطان أخرس، لكن الطريق ليس بالإسقاط الكلي للآخر فيما تميز به من موقف، كلا، بل هذا يستفاد منه في تأصيلاته، وهذا في مبادراته، وهكذا تجتمع القلوب والجهود.

الخطأ في مبدأ: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر: ٢٩]

كما هو في قوم ليست لديهم أية مبادرة ولا شيء من التأصيل، سوى الرصد والنقد للعلماء.

قضية أخرى من مبررات الإسقاط: موقف العلماء - خاصة منهم أساتذة العقيدة - من جنوح الفرق كالشيعة، بالتحذير من تقارب يلغي الهوية السنية، ويوقع تحت الهيمنة الشيعية، فالفروق العقدية الأصلية راسخة بيّنة، فلا اجتماع حقيقي إلا بتحول كلي تجاه الآخر.

هذا الموقف الراسخ لم يرق للتنوريين، ولا يزال الجميع يذكر المناوشات حول التحليل العقدي، إبان بداية ثورة حزب الله في لبنان في ٢٠٠٦، فقد مارس التنويري تهكما وسخرية بالعقدي وتحليلاته للخلاف الشيعي السني، ثم ما لبثت الأيام كشفا عن صحة رأي العقدي في الشيعة وحزب الله، عام واحد فحسب كان كفيلا، لكن ذلك لم يردع التنويري - بعضهم تنبه لهذا - فراح يزيد ويمعن في العناد، وهو في زيادة من هذا منذ بدا، حتى كان هذا العام؛ حيث تعرضت بعض دول الخليج لتهديد حقيقي من رعاياها من الشيعة، خطر لم يسع الليبرالي والسياسي إلا أن يقر به ويسعى في كفه، وهو أبعد ما يكون عن طريقة التحليل العقدي، غير أن التنويري إما ساكت، والسكوت في هذا الحال انحياز، أو يتكلم بالمنطق ذاته الذي درج عليه .. لم يعتبر مما كان!!.

صحة موقف العلماء وأهل الاختصاص العقدي في هذا كان ينبغي - أدبا - أن يسجل ويقر به، لكن ذلك لم يتلطف به تنويري؟!!.

أخيرا: فإن مما يوقف على جنوح طريقة التنوير، المظاهرة الواضحة منهم لأطروحات الليبراليين، في قضايا الحريات الفكرية والثقافية، والمرأة، والفرق المخالفة، بل يكاد التوافق بينهم يأخد مداه البعيد، حتى إنك لتعجز عن التفريق بينهم في ألسنتهم ومنطقهم، حتى لتقول:

سبحان ربي!، هذه وجوه سلفية، بثياب ليبرالية، تزعم أنها تنويرية إصلاحية.

<<  <  ج: ص:  >  >>