وقد كان نهج السلف رحمهم الله البعد عن أهل البدع، وعدم تعريض الناس لسماع أقوالهم، بل كانوا يطردونهم من مجالسهم، وكانوا يكبتون الأقوال الشاذة، والبدع المستحدثة بحصرها في أضيق نطاق، ومناقشتها عبر الكتب المتخصصة، وعدم بثها بين الناس، بل كان الفُضيل بن عياض رحمه الله تعالى يقول:(لو سألني أحدهم: أمؤمنٌ أنت؟ ما كلّمته ما عشت)، يقول هذا في زمن انتشار فتنة القول بالإيمان، فتأمل أخي الحبيب كيف كان رحمه الله يقطع دابر الأقوال الشاذة بخنقها في صدور أصحابها، فلم يكن يأمن على نفسه ولا على من حوله من كثرة ترداد مثل هذه الأقوال والتساؤلات .. مع أنها مجرد تساؤلات .. فكيف بكتب تنثر الشبه كنثر الدقل، وتبرهن عليها؟ ولم يكن الفضيل بِدعاً من بقية علماء وسادة السلف عليهم رضوان الله ..
بل إن من حرص السلف الصالح على نقاء العقيدة ونقاء التصور، والبعد بالناس عن مواطن الإضلال أمرهم بالسكوت عن شيء من الدين، مما لا تبلغه بعض العقول، قال ابن مسعود:(إنك لن تحدث قوما حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة) .. فكان السلف يسكتون عن ذكر بعض صفات الرب سبحانه وتعالى إن كان في مجالسهم عامة الناس الذين لا يدركون مثل هذا الكلام، خشية أن ينكت الشيطان بها في قلوبهم نُكت الشُبه .. ويتحدثون بالكلام المشهور المعروف من أمور الدين ..
البعض يرى في كتب ابن تيمية - مثلا - كلاما فلسفيا، وعمقا في رد شبه أهل الكلام مما يشي باطلاع عميق على هذه العلوم، ومن المعروف عنه رحمه الله أنه ضليع في علم الكلام، فقد تبحر فيه، فيكون مثل هذا داعيا لهؤلاء لتعريض أنفسهم لقراءة كتب أهل الانحراف، ولم يعلموا أن ابن تيمية وأمثاله إنما فعلوا ذلك بعد أن تضلّعوا من علوم الوحي، وبعد أن صاروا أئمة في الدين، فقرؤوا ما قرؤوا من كتب أهل الكلام وقد صاروا دهاقنة بصيرين يميزون زيف الأقوال من غيرها، ويخرجون الضلالات من كتب أهل الزيغ بالمناقيش كما يقال، ثم يردون عليها، ويفنّدونها نصحاً للأمة، وليس من قبيل الترف الفكري هذا الذي صرنا بسببه نخاطر بصفائنا ..
أصبح البعض يقبل على مثل هذه القراءات، بل يدعو إليها، فإذا ما نُصح في ذلك أتى بكلام يحمل مورّثات قبليّة، وكأن القضية من قضايا النخوة والشهامة؟ من مثل: لسنا صغارا؟ ونحن رجال وهم رجال! ومن أشد الكلمات التي تقال في هذا السياق كلمة صنعها الشيطان في معمله ثم نشرها في الآفاق تقول الكلمة: ليست عقيدتنا من الهشاشة حتى نخاف عليها كل هذا الخوف! وهذا من قبيل الأمن من مكر الله، يُخشى على صاحب مثل هذه العبارات أن يبتليه الله في عقيدته، لأن السماوات والأرض لم تخلق إلا للعقيدة .. ثم يأتي صاحبنا ليعرض عقيدة في أسواق البدع والضلالات .. بحجة تماسكها وبأنها ليست هشة؟ وهذا الشيطان كان من قربه من الله يعبده في معية الملائكة فضلّ ضلالا بعيدا .. فهل كانت عقيدته هشة وهو يعبد الله في السماء؟ أم أن الأمر أبعد من مسألة الهشاشة والتماسك .. إنها قضايا القلوب التي حيّرت وأذهلت وأشابت عباقرة الإسلام، حتى قالوا: ما أمن النفاق إلا منافق!