لا ينبغي نشر ثقافة الأمن من النفاق، مع أن من أعظم ميزات الصحابة رضوان الله عليهم هي ميزة الخوف منه، والحذر الشديد من الوقوع فيه، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان كثير الاتهام لنفسه بالنفاق، بل مما يذكر أنه دخل على حذيفة (وهو أمين سر النبي في أسماء المنافقين) فدخل عليه المسجد وهو يقرأ القرآن وقال يا حذيفة لقد مات فلان فهلمّ نصلي عليه، فلم يقم حذيفة وأكمل قراءته، فأعاد عليه عمر فلم يقم حذيفة، فعلم عمر أن حذيفة قد علم أن ذلك الرجل ممن عدّهم النبي في المنافقين، فجاء إليه وعيناه تذرفان وقال: أسألك بالله يا حذيفة .. أعدّني رسول الله منهم؟ فقال حذيفة: لا .. ولن أخبر أحداً بعدك ..
فهذا عمر وهو عمر، كان يخشى على نفسه من هذا الكابوس الخطير، كابوس النفاق، بينما نجد بعضنا يوغل في قراءة الكتب التي تنثر بذور النفاق في القلب نثرا خفيا .. فيعرض أحدنا نفسه لأعظم مهلكة، تودي بدينه ودنياه ..
زرت في سنة من السنين شخصا أدين الله بأنه على ضلالة، فأهداني كتبا له، فرآها أحد الأحبة معي فطلبني أن أحرقها فأبيت، وأنا أقول في نفسي، لا يعلم هذا ما أنا عليه من معرفة وتحصين فكري!! وهذا كان مني غروراً وعُجبا واعتداداً بما معي من ضحل الثقافة ..
وأخذت في قراءة شيء مما في تلك الكتب المشؤومة .. ثم تركتها جانبا وانصرفت لحياتي .. وبعد أسابيع أو أشهر، أمسكت كتابا فقهيا، وفي إحدى الصفحات جاء الكتاب على ذكر الإمام أحمد بن حنبل وبأن قوله في المسألة كذا .. فانقبض قلبي يسيرا، نعم والله أحسست بشيء كالبغض تسلل في قلبي عندما وقعت عيني على اسم الإمام العظيم أحمد بن حنبل!
وبعد سطرين، توقفت وبدأت أتأمل ذلك الشعور الغريب على نفسي، ثم تذكرت أني قرأت في تلك الكتب الضالة نقدا لاذعا لهذا الإمام، ومع أني لم أقتنع بشيء من ذلك النقد إلا أن شؤم ذلك الكلام الذي قرأته قد تسلل إلى نفسي دون أن أعي، أو حتى أن أقتنع .. فاستعذت بالله من شر تلك الكتب، وعاهدت نفسي بعدها على أن أخاطر بأي شيء إلا قلبي، وأن أتجرأ على أي شيء إلا عقيدتي .. ومازلت أدعو لذلك الشاب الذي طلب مني إحراق تلك الكتب .. وأعلم فضل عقله على عقلي ..
فالحذر الحذر من أي كتاب يُعبث فيه بمسائل العقيدة، فمنطقة القلب والاعتقاد منطقة لا ينبغي التعامل معها إلا بالحذر الشديد، وكم سالت دموع الصالحين خشية من الإضلال في آخر الحياة ..
وقد تنشأ في القلب بسبب هذه المطالعات "الدسائس"، هذه الدسائس التي أخبر ابن رجب رحمه الله تعالى أنها من أسباب الإضلال قبل الموت، والتي فسّر بها حديث ابن مسعود الشهير: " .. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار .. فيدخلها!! " والعياذ بالله ..
تأمل أخي الصالح كيف أن الله تعالى نهى عن قُربان المعاصي" {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: ٣٥]، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: ٣٢] .. وهي معاصي شهوات، فكيف بنا ونحن نصول ونجول، ونخوض في مستنقعات الشبهات، ألا نخشى من الزيغ بعد الهدى؟
يجب أن نحفظ قلوبنا أعظم من حفظنا لأجسادنا، هذه الأجساد التي نعرّضها للحِمْية الغذائية حتى نحفظها، لا بد أيضا أن نعرض قلوبنا لحمية فكرية، فلا نقرأ أي مقالة، ولا نطّلع على أي كتاب، ولا نستهين بأي شبهة، فقد بكى بعض الضُلاّل من علماء الكلام بكاء حارا عندما سمع عامّيا يقول: لا إله إلا الله .. فقال ذلك العالم: أومن قلبك تقولها؟ قال: نعم؟ قال: أمعتقد بها؟ قال نعم، فبكى ذلك العالم بكاء شديدا وقال: أما أنا فلا أدري ما أعتقد! نعوذ بالله من الزيغ ..