البعد عن البيئة المعينة، واستبدالها ببيئة هابطة الغايات، والأولويات، وهذا أثره في التطبع على سلوكيات البيئة الثانية، ولقد قال الحق جل وعلا في حقه نبيه -عليه الصلاة والسلام-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}[الكهف٢٨]، والمتدبر في هذه الآية يجد وصف هؤلاء الدعاة تكمن في الفاعلية، والاستمرارية والإخلاص، وهذا يجسد لنا صفات البيئة المناسبة لاحتضان المصلحين والهداة.
قلة العلم، والجهل بأحوال الفتور والشره. وأعني بالعلم هو العلم الشرعي والتربوي الذي يساير الفرد حتى موته، وأخذه من العلماء الراسخين، وطلبة العلم الموثقين، ولا يكن الهوى والانكماش على الذات هو المسير الوحيد للسلوك، وإنا نجد في تعاطي الصحابة والسلف الصالح لهذه القضية نموذجاً حياً يمثل مشهد العلم والتعلم وبذل الوقت والجهد فيه, فهذا جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - بلغه عن رجل من أصحاب رسول الله حديث سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشام وهو عبد الله بن أنيس - رضي الله عنه - فابتاع بعيراً وشد عليه رحله وانطلق يسمع حديث رسول الله-عليه الصلاة والسلام-، وذاك شعبة -رحمه الله-يرحل شهراً كاملاً في طلب حديث سمعه من طريق لم يمر عليه. (للاستزادة أنظر الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي).
وفي عصرنا الحاضر قوى علمية جمعت بين العلم وصلاح القلوب وتزكيتها منهم من رحل ومنهم من بقي، ونجدهم والله أعلم بحالهم، أبعد الناس من الوقوع في الشبه وإضلال الخلق، وأقربهم للهدى والإصلاح.
وهنا يأتي دور العلم بأحوال النفس ومدى إقبالها وإدبارها، وكيف يسايس المؤمن نفسه حين يعلم منها حالاً تعايشها، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شره، وَلِكُلِّ شره فَتْرَةً، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ إِلَي غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ)) (صحيح) انظر حديث رقم: ٢١٥٢ في صحيح الجامع. وهذا النص يوضح لنا المنهج الواضح في حال الشره والفتور.
الإمعية والإتكالية، وإهمال البذل والعطاء والتضحية لدين الله عزوجل، وهذا داء عضال وكل يسير في اتجاه مغاير لكنها تتقاطع في البعد عن تحمل المسؤولية، وعدم الالتزام بالأمر، والمهمة الملقاة على عاتق الأخيار، وبالتالي حين يرى الواحد منا في غيره وحتى ذاته بداية الانسلاخ من المسؤوليات والمهام التي على عاتقه (الدعوية وما في معناها)، فليراجع ذاته، وليحاسب نفسه، وعادة أنها بداية للتخلي عن الوظيفة العظيمة، وهي الدعوة إلى الله، والتي هي بمثابة المثبت الأول على دين الله، وتزكية للعلم والخير الذي يحمله المصلح.
الإمعية: هو أن يكون هذا الفرد طيلة عمره تبعاً لجماعته التي يعيش معها دون أن يكون له أثر حتى في نقد الأفكار، والمساهمة في الجزئيات، ولا حتى الإيجابية في بعض المظاهر البسيطة، والإتكالية: هو البقاء تحت أستار جهود الآخرين والهروب عن تحمل المسؤوليات والتبعات، وأرجع لأقول إن من الهوان أن يبقى المؤمن خلف هذه الأستار المشوهة، وأنها طريق لإزهاق روح الهداية، ولا نطالب أن يكون الفرد خطيباً مفوهاً، أو ملقياً بارعاً، أو باحثاً مطالعاً، ولكن كل بحسبه.