للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الاعتداد بالذات (الكبر)، وهو من أخطر أمراض القلوب وأشدها فتكاً، وخطره وعواقبه ضارة، وكل مساراتها تقف ضد معاني الشريعة (التواضع، لين الجانب، وقبول الحق من الإخوان ولو كان أحدهم وضيع في القوم)، قال الحق جل وعلا: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف١٤٦].

وقال أحدهم:

تواضعْ تكن كالنجمِ لاحَ لناظر

على صفحاتِ الماءِ وهو رفيعُ

ولا تك كالدخان يعلو بنفسه

إلى طبقات الجو وهو وضيعُ

والتاريخ والحاضر مليئة جعبته بمن خلف هذا السلاح الفتاك من قتلى في حديقته الدامية فمن إبليس بداية المسيرة لهذا الداء، ولازال، وأقول إن معظم ما يختال الأغلبية في ضعف تدينهم، وسوء علاقاتهم هو نسبة عظيمة من هذا الداء الكامن في القلوب، - والعياذ بالله - والذي يأتي في قوالب عديدة تُسقط على سلوكيات مبررة بحفظ الهيبة، والوقار، وهي من تلبيس إبليس.

الغلو والتنطع والتشدد والتشديد، ولا غرو بعدم الملامة على شخص أقر بذلك على ذاته في الأحكام كابن عمر - رضي الله عنه-، وبعض الزهاد والعلماء من السلف الصالح، ولكن أن يظهر ذلك حتى على إحكامه - ما يعتقده ويتورع به - على غيره، وإن السائل يسأل كيف لهذا أن يكون سبباً للضعف والانتكاس؟ إنا نذكره بما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم- (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة). وأقول إن المصيبة من يعتقد الفظاظة في الأسلوب، وإهمال اللباقة واللياقة في الحديث من الدين، وإن من تمنهج على هذه الطريقة ثم يجد نفسه في خانة الآحاد لا شك أنه سينتقد ما كان عليه، وبشكل آخر يرمي معتقده، وبيئته الدينية بالاتهامات الباطلة، والدين منه براء، وكم عرفنا من كانت له بدايات في سبيل الخير والإصلاح، وكان متزمتاً متنطعاً في الحكم على الناس ومجابهتهم، حتى بلغ السيل الزبى فتقهقر- والعياذ بالله - حتى وجد نفسه بعيداً عن القلوب والأجساد معاً .. فأصبح في قيد من قيود الأرض ليرجع مع من هوى وسقط.

الانغماس في الدنيا وتبعاتها، والانهماك في المباحات، واللهو والسفاسف، والغرق في المرابحة والتجارة، وقلة التورع في المعاملات المالية لاسيما التي في دائرة الشبهة، والغرق الشديد في الرفاهية وعادة ذلك في المسكن والمركب والملبس والمأكل، وكل هذا مندرج تحت (إظهار النعمة المكتسبة) أو (عدم ترك الأبناء عالة يتكففون الناس)!. ولقد قال تعالى في ذم اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:٩٦].وعن أنس -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان: حب المال، وطول العمر" (رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري). وقد أخبر المصطفى- صلى الله عليه وسلم-أمته كما روى البخاري ومسلم، قال: "فو الله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم".

(ودرجات الورع أربع:

الدرجة الأولى: درجة العدول عن كل ما تقتضي الفتوى تحريمه.

<<  <  ج: ص:  >  >>