وعندما كتب ابن خلدون عن علم العمران، ذكر أن من فوائده معرفة الواقع (والمنتظر) وكأن الذي يتقن هذا العلم يمكن له أن يستشرف المستقبل ويتوقع ما تأتي به الأيام، ولعل أهم علامة مميزة لمفكر هي رؤيته المستقبلية لأنه يرى ما لا تستطيع العقول الصغيرة أن تتصوره، وقد يكون ما نتوقعه يحدث ببطء، وقد يكون هناك مفاجآت لأن المتغيرات كثيرة، ولكن كما يقول الجاحظ:"إنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل الأمور واستشفافهم ما تجيء به العواقب، وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم، أما معرفة الأمور عند تكشفها، فذاك أمر يعتدل فيه الفاضل والمفضول والعالمون والجاهلون"
لا شك أن الحديث عن المستقبل يشكل تحدياً كبيراً، ولكن محاولة تصوره أفضل من داء الارتجال الذي نعاني منه، فلا إعداد للأمر عدته، ولا أخذ الأهبة والاحتياط للأمر قبل أوانه، ولكنه الارتجال على ضوء الحاضر، وأبسط مثال عل ذلك هو تخطيط المدن في بلادنا فبعد أن تتوسع المدينة توسعاً كبيراً، يتذكر القائمون على إدارتها أنه لا بد من حفر الشوارع وتخريبها لتمديد الكهرباء والماء ... ولا نتكلم عن هدر الطاقات في ميادين التربية والثقافة والاقتصاد، وهدر الطاقات في ميادين العلم والدخول إلى الحضارة التي أساسها عندنا هو الدين.
هل كنا بحاجة إلى ذكاء شديد لنتوقع ماذا سيحدث بعد سقوط بغداد؟ وهل من الصعوبة توقع ماذا يريد الغرب عندما يلح على انفصال جنوب السودان؟ ليس بالأمر العسير معرفة هذا، ولكنه عدم التبصر في العواقب.
قد تكون صورة الأوضاع في الواقع الحالي قاتمة ولكن لا ينبغي أن يتسرب اليأس إلى نفس المسلم، فاليأس شر سلاح يفتك بالإنسان، ولا ينبغي أن يتوقع المسلم كل يوم شراً، فمستقبل الشعوب لا يُرسم وكأن العالم لن يتغير، فالتقدم والتأخر منوط أيضاً بمشيئة الإنسان التي هي ضمن مشيئة الله {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}[المدثر: ٣٧] فالعمل اليسير قد يقوم به عدد قليل من البشر، ولكنهم يصنعون مستقبلاً، فالتجار الحضارمة والعمانيين الذين وصلوا إلى جزائر إندونيسيا كان من آثار رحلتهم أن أسلم أهل تلك البلاد والسفن التي كانت تتاجر بالعبيد في إفريقيا وأمريكا، كان من نتائجها أن يوجد اليوم في أمريكا مليونا مسلم من الأمريكيين السود ولهم تأثير في مجرى الأحداث هناك.
إن فريضة الحج فرصة نادرة للالتقاء بين المسلمين ولها من الجذب والتأثير ما يفوق أي عمل بشري، وهذا من أسرار هذه الفريضة العظيمة "فقوافل الحجاج في الماضي والحاضر تشق أرجاء العالم الإسلامي في مسيرة لا تتوقف ولا تبالي بالعقبات، فقد كان حجاج بيت الله من الأندلس والسودان والصين والملايو وكأن قوافل الحج كانت أسلحة محاريث تشق الأرض الإسلامية وتقلب تربتها، وتأذن لشمس العقيدة أن تتخللها في عمق، وتبعث فيها الحياة"
يملك المسلمون أشياء كثيرة، ولكنها بحاجة لمن يستفيد منها ويستغلها، فالموقع الجغرافي في وسط العالم له تأثيره وميزاته، وخاصة بوجود الأماكن الإستراتيجية كالممرات المائية المعروفة
يملك المسلمون ثروة فقهية (قانونية) لا نظير لها في تاريخ البشرية، تبحث في تفاصيل حياة الإنسان، وفيها من المرونة ما يتسع لكل مشكلة طارئة. يقول المستشار القانوني طارق البشري متحدثاً عن هذه الثروة:"إن العبقرية الإسلامية تدهشني في هذا المجال، فأنا حتى اليوم وبعد ما يقرب من نصف قرن في العمل في القضاء أشعر أني ما زلت تلميذاً عند هؤلاء القوم (الفقهاء) "