للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا كان المبتدع جزءا من الكيان الإسلامي وجسد الأمة فإن حقوق الأخوة الإيمانية التي قررها الإسلام تظل محفوظة له، متمتعا بكافة الحقوق الشرعية التي فرضها الإسلام. إلا أن هنا ملحظا مهما وهي أن من طبيعة المجتمعات أن تتعامل في الجانب المادي من حياتها عند وجود الضرر والأذى من قبل شخص مريض أو مختل أن يباشروا من التدابير ما يعينهم على إزالة الضرر ورفع الأذى أو في أقل الأحوال حصرها وبما لا يخل بحق المريض أو المختل في الرعاية، مع إمكانية تقييد بعض حرياته أو إسقاط بعض حقوقه لمصلحة أكبر؛ هذه الصورة المادية تقابلها صورة معنوية في حال كان الشخص مجرما أو صاحب خلق سيئ حيث يأتي عوضا عن الحجر الصحي والعلاج المادي حَجْرٌ من نوع آخر وعلاجٌ من نوع آخر؛ وهذه السُّنة الاجتماعية لا يغفلها الإسلام في المبتدع، باعتباره شخصا (مختلا) في جانب (الدِّين) ومن ثمَّ فكما أن للجوانب الأخرى تدابيرها لصيانتها في حياة المجتمع يكون الدِّين أحق بهذه التدابير.

ومن هنا يأتي الإسلام ليرسم أحكام التعامل مع المبتدع من هذه الزاوية، زاوية أن المقصود من التعامل مع المبتدع أمران:

الأول: معالجة (المبتدع) وإخضاعه للتدابير التي من شأنها تحقيق العلاج لأهدافه.

الثاني: صيانة (المجتمع) من الآثار التي قد تلحق به (دينيا) من البدعة ذاتها فضلا عن المبتدع.

وكما هي حالات المرض، يتفاوت تقييم الإسلام للبدعة وصاحبها ومن ثمَّ يختلف تعامل المجتمع الإسلامي مع المبتدع بحسب البدعة ذاتها وبحسب تأثير المبتدع من جهة أخرى.

ومن أولى أحكام التعامل مع المبتدع:

١ - بيان مخالفته للدِّين بالحجة والبرهان والدليل، وهذا ما سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم مع ذلك الشاب الذي أتى يستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في الزنا!! ومع ذلك الشخص الذي توجه إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام- بالقول: اعدل يا محمد!

٢ - نصح المبتدع وإظهار الشفقة به، مع بيان عظم ما وقع فيه وعظم الآثار التي ستترتب على بدعته؛ وهذا بالفعل ما قام به عبد الله بن عباس رضي الله عنه وهو يحاور الخوارج ويلزمهم بلازم مذهبهم الذي ذهبوا إليه في شأن الفريقين المتقاتلين من الصحابة.

٣ - الوقوف بصرامة إزاء تحول هذه البدعة إلى مذهب يتلقفه الناس ويتخذونه منهجا؛ لذا حذر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من البناء على القبور واتخاذها مساجد ولعن اليهود والنصارى معرضا بهم كل من يقوم في هذه الأمة بهذه البدعة. كما واجه الرسول عليه الصلاة والسلام النفر الذين تقالوا عبادته في شأنهم لما قد غُفِرَ للرسول عليه الصلاة والسلام بالبيان والتحذير والإنكار الشديد.

٤ - وفي جميع الأحوال السابقة يبقى للمرء حقوق الإسلام وعليه واجباته لا يسقط منها شيء، لذا فإنه نادرا ما كان يُقصي الرسول صلى الله عليه وسلم من جاء بأمر منكر في الدِّين، بل احتمل عليه والصلاة والسلام بقاءهم في المجتمع ولكن مع إنكاره عليهم وتحذيره مما صنعوا. فقد كان يعلم الرسول الكريم أن للشيطان مداخله على بعض الصالحين من جهة تشددهم أو فهمهم خطأ للدين أو تعبدهم لله بما يستحسنونه من حال أو هيئة؛ فإذا لم يُحسن إلى هؤلاء تحولوا إلى أعداء؛ كيف وقد صبر على أعدائه من المشركين وأهل الكتاب ومنافقي المدينة.

٥ - غير أن هناك وضعا آخر تتحول معه البدعة إلى مهدد حقيقي للدين أو المجتمع وحدته وأمنه واستقراره؛ ما يلزم في هذه الحالة معالجة جادة وصارمة لذلك:

أ- إن كانت البدعة مكفرة: أي أن يحدث المرء من العقائد أو الأفعال أو الأقوال ما يوجب تكفيره، فإن كان ذلك صادر منه عن جهل أو تأول، بُيِّن له، وروجع في الأمر، وأقيمت عليه الحجة، واستتيب من قبل ولي الأمر، فإن وجد أن بدعته صادرة عن زندقة وإلحاد منه عُزر، وإن كان بالقتل. وقتل المبتدع الذي تصل بدعته حدَّ الكفر والزندقة التي بحيث ينتقد الدين بها عادة متبعة في دول الإسلام؛ ويدل عليه الوقائع التي وقعت لبعض المبتدعة، كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالسبئية حين حرقهم، وكذلك قتل الجعد بن درهم والحلاج وغيرهم. والحاصل: أن القتل مما يعاقب به صاحب البدعة إذا كانت بدعته مغلَّظة مكفرة واستتيب ولم يتب، أو رأى أهل الحل والعقد أو الإمام أو من أفتى من العلماء أن هذا المبتدع يُقتل وإن لم يُستتب.

ب- وإن كانت البدعة مفسقة لكن لها أثرها على وحدة الأمة وأمنها واستقرارها (كبدعة التكفير عند الخوارج)، فلا يُكفَّر صاحبها، لكن مقاتلته فيما لو أفسد في الأرض وحمل السيف واجبة لوأد الفتنة وإخماد ثورتهم، وهذا فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع الخوارج، حيث لم يبادئهم بقتال ولا حكم بكفرهم ولا بنفاقهم ومع ذلك قاتلهم لما حملوا السيف على المسلمين.

<<  <  ج: ص:  >  >>