للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(٤/ ٤)

مؤسسة الدرر السنية - القسم العلمي

تنبيهات عند دعوة المبتدع:

وهذه أمور ينبغي أن يُنتبه لها عند قصد دعوة أهل البدع:

١ - ألا يحملنا كراهة البدعة وأهلها على الغلو مع المبتدعة، بل لا بد من العلم ومعرفة القواعد والمقاصد الشرعية التي تضبط تصرفات المكلفين وتقدير المصالح والمفاسد أثناء دعوتهم، فقد ظن أناس أن هجر المبتدع حكم شرعي لازم كملازمة المسببات لأسبابها، وهو بمنزلة الحد أو هو كالبراء، والواقع أن هجر المبتدع كغيره من عقوبات المبتدعة وأهل المنكرات من المصالح المرسَلة التي تقدر بقدرها، ويعمل بها حسب الحال.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مبيناً اختلاف الناس في أخذهم بعقوبة هجر المبتدع: (إن أقواماً جعلوا ذلك عاماً فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به مما لا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية؛ فلم يهجروا ما أُمِروا بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره ... ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجاباً أو استحباباً ... ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه) (١).

٢ - كما أنه لا يجوز اتخاذ موقف سلبي من مسلم بسبب أمور وقع فيها إلا بعد أن يغلب على الظن أنها بدعة، أو معصية، من خلال معرفة كون ذلك العمل أو الأعمال بدعة فعلاً أو معصية؛ فإن جملة من الخلافات التي تقع بين الناس في المسائل الشرعية يكون سببها قصر النظر في فهم الخلاف المذهبي الفقهي، وفي الوقت ذاته توسيع دائرته ليصبح خلافاً عقدياً أو مخالفات شرعية، أو ربما كانت في أمور دنيوية ليست من الشرع أصلاً (٢).

فينبغي للمسلم أن يعرف مفهوم البدعة وماذا يشمل؟ فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

٣ - كما أنه لا بد من العدل مع المبتدعة حتى يكون ذلك سبباً لاستجابتهم، فإن العدل فضيلة مطلقة؛ لا تقييد في فضله؛ فهو ممدوح في كل زمان، وكل مكان، وكل حال، ممدوح من كل أحد، مع كل أحد، بخلاف كثير من الأخلاق فإنه يلحقها الاستثناء والتقييد، ولهذا اتفقت على فضله الشرائع والفطر والعقول، وما من أمة أو أهل ملة إلا يرون للعدل مقامه.

وبالعدل تحصيل العبودية لله وحده، وبه تُعطى الحقوق، وتُرد المظالم، وبه تأتلف القلوب؛ لأن من أسباب الاختلاف الظلم والبغي والعدوان، وبه يُقبل القول، أو يعذر قائله، وبه تحصل الطمأنينة والاستقرار النفسي، فالخلاف مضيق لآراء الناس ومواقفهم، وعند المضايق يذهب اللب، وإذا ذهب اللب فلا تسأل عن ضياع حقوق المخالف؛ بل ضياع الحق نفسه في أحيان كثيرة، ففي الوقت الذي ندين لله تعالى ببغض المبتدع واستيقان استحقاقه للعقوبة نلزم أنفسنا بما ألزمنا الله به من العدل والإنصاف؛ فالعدل منهج شرعي في كل شيء، على أن العدل المحض في كل شيء -كما يقول شيخ الإسلام- متعذر علماً وعملاً، ولكن الأمثل فالأمثل (٣).


(١) مجموع الفتاوى: ج٢٨/ ٢١٣.
(٢) قضايا دعوية .. كيف نتعامل مع المبتدعة؟، لسليمان الخضير، بتصرف.
(٣) مجموع الفتاوى: ج١٠/ ٩٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>