فأين في أثر سلمة رضي الله عنه التبرك بالأسطوانة أو بالمصلى خلفها، غاية ما فيه تحريه الصلاة عندها اقتداء بتحري النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من جنس الصلاة خلف مقام إبراهيم أو في مسجد قباء مع أن الصلاة عندهما أوكد من الصلاة عند الأسطوانة لما ثبت من فعله وقوله وترتيب الأجر على ذلك، ومع ذلك لم يقل أحدٌ من السلف أن الصلاة خلف المقام أو في مسجد قباء، كانت للتبرك بالمكان بل هو اقتداءٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم طلباً للأجر لا لبركة المكان، ثم لو كان ذلك للتبرك فأين سلمة وسائر الصحابة رضي الله عنهم من محرابه صلى الله عليه وسلم، وهذا ما سبق الحديث عنه من أنَّ الشيخ يخلط بين التبرك والتعبد والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك علق شيخ الإسلام ابن تيمية كما في (مجموع الفتاوى)(١٧/ ٤٦٧) على حديث سلمة رضي الله عنه بقوله: ((وقد كان سلمة بن الأكوع يتحرى الصلاة عند الأسطوانة قال لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها فلما رآه يقصد تلك البقعة لأجل الصلاة كان ذلك القصد للصلاة متابعة)) أ. هـ فهي متابعةٌ قصداً للأجر وليست تبركاً بالمكان، ويتأكد هذا التخريج بأنَّ سلمة رضي الله عنه وغيره من الصحابة كذلك، ما كانوا يتحرون كلَّ بقعةٍ صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانوا يتحرون ما كان يتحراه صلى الله عليه وسلم، ومذهب الشيخ أن كل مكان مكث فيه النبي صلى الله عليه وسلم ولو لبرهة فهو محلٌ للتبرك وهو على خلاف مذهب سلمة المستدل بفعله، ثم أين في الأثر إشارة إلى التبرك المزعوم؟! غاية ما فيه تحريه الصلاة حيث تحرَّاها النبي صلى الله عليه وسلم، ولو سلمنا جدلاً أن التحري كان للتبرك فهو تبركٌ بما لامس جسده الشريف في ذلك الوقت، وليس تبركاً بالبقعة ذاتها، فلو أراد أحدٌ اليوم أن يصلي خلف الأسطوانة تأسياً فله ذلك، أما تبركاً فلا، أيتبرك بالفرش الأعجمية أم بأنواع الرخام المصنوع في الشرق أو الغرب؟! فليس ثمة ما مسَّ جسده الطاهر صلوات الله وسلامه عليه.
ومن الغرائب أن الشيخَ يعدُّ هذا الأثر من قسم المرفوع حتى يعارض به أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيقول (ص٢٧): ((فهذا أثر موقوف على عمر رضي الله عنه فكيف يناهض حديثين مرفوعين مقطوعاً بهما رواهما البخاري ومسلم، وهما: حديث عتبان، وحديث سلمة بن الأكوع المتفق عليه)) ولا أدري ما وجه كون حديث سلمة رضي الله عنه مرفوعاً وهو من فعله واجتهاده بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟!
= أمَّا ثالث أدلته وهو تحري الصحابة الصلاة عند أسطوانة عائشة رضي الله عنها فقد أورد فيه حديثاً منكراً، ولو صح فليس فيه دليل على التبرك، فقد قال - عفا الله عنه - (ص٢١): ((وأسطوانة عائشة كانت تسمى أسطوانة المهاجرين حيث كانوا يجتمعون عندها، وكان الصحابة يتحرون الصلاة عندها، ذكر ذلك الحافظ في الفتح، ... ثم قال: روى الطبراني في الأوسط عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في المسجد لبقعة قِبَل هذه الأسطوانة، لو يعلم الناس ما صلُّوا فيها إلا أن تُطَيَّر لهم فيها قرعة ... الخ الحديث)).أ. هـ
والحديث رواه الطبراني في (الأوسط)(١/ ٤٧٥) من طريق عتيق بن يعقوب قال حدثنا عبد الله ومحمد ابنا المنذر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ومحمد بن المنذر هو الزبيري يروي عن هشام أحاديث موضوعة ومنكرة، وعبد الله أخوه لا تُعرف له ترجمة. انظر:(السلسلة الضعيفة) للألباني (٢٣٩٠)