للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنه لم يعد كافياً حتى يكون المتعلم فقيهاً فاعلاً في واقعه أن يكتفي بما ترسمه بعض كتب التراث من شروط لمواصفات الفقيه؛ لأن ثمة معارف جديدة تتطلب من فقيه اليوم قَدْراً من الدراية والإحاطة لا نجد الحديث عنها بالقدر الكافي في صورة الفقيه القديمة، وإن السعي لاستنساخ ذلك دون محاولة تطويره أو معرفة الفوارق بين الحاجات العلمية التي كان يتطلبها واقعه وبين حاجات واقعنا العلمية، يعني مزيداً من خلق المشكلات في حياة المتلقين؛ بل ربما أدى ذلك إلى إضعاف هيبة الفقه الإسلامية، وتعرُّضها لكثير من النقد والتشكيك بسبب عدم تأهيل حامليه التأهيلَ المناسب لهذه المرحلة الجديدة، ولقد كانت هذه المشكلة - وهي ضعف تأهيل الفقيه - إحدى أسباب تقليل المتكلمين من شأن الفقه وجعلهم أغلبَ فروعه من باب الظنون وليست من باب اليقين؛ وذلك بسبب ضعف استعداد الفقهاء الذين قدَّموا لهم الفقه في تلك المرحلة. يقول ابن تيمية في ذلك: «إنه لكثرة التقليد والجهل والظنون في المنتسبين إلى الفقه والفتوى والقضاء، استطال عليهم أولئك المتكلمون، حتى أخرجوا الفقه الذي نجد فيه كل العلوم من أصل العلم، لما رأوه من تقليد أصحابه وظنهم» (١).

إن ما قاله ابن تيمية من استطالة المتكلمين على الفقهاء في ذاك الزمن، ربما قد يتكرر في هذا الزمن لكن بصورة أخرى وهي صورة التشكيك الفكري التغريبي في أحكام الفقه الإسلامية، وإن من أهم سبل مدافعته: التأهيل المناسب للفقيه الجديد الذي يستوعب مقالات هذا الفكر حتى يُحسِن مدافعته، «ومن لم يعرف أسباب المقالات - وإن كانت باطلة - لم يتمكن من مداواة أصحابها وإزالة شبهاتهم» (٢).

وإن حالة الضعف الفقهي في كتب متأخري الفقهاء هي التي جعلت شيخ الشاطبي يوصيه بعدم الانشغال بكتب الفقه المتأخرة في زمانه والاكتفاء بما كتبه المتقدمون في الفقه؛ حيث يقول: «وأما ما ذكرتُ لكم من عدم اعتمادي على التآليف المتأخرة، فلم يكن ذلك مني - بحمد الله - محضَ رأيٍ؛ ولكن اعتمدت بسبب الخبرة عند النظر في كتب المتقدمين مع كتب المتأخرين، وأعني بالمتأخرين: كابن بشير (ت بعد ٥٢٦هـ)، وابن شاس (ت ٦١٠هـ)، وابن الحاجب (ت ٦٤٦هـ)، ومن بعدهم، ولأن بعض من لقيته من العلماء بالفقه أوصاني بالتحامي عن كتب المتأخرين، وأتى بعبارة خشنة في السمع لكنها محض النصيحة» (٣).

لكن الونشريسي كشف عن تلك العبارة الخشنة التي أبهمها الشاطبي، فقال بعد ذكر كلامه: (والعبارة الخشنة التي أشار إليها كان - رحمه الله - ينقلها عن شيخه أبي العباس أحمد القباب (ت حوالي ٧٧٩هـ)، وهي أنه كان يقول في ابن بشير وابن الحاج وابن شاس: فسَّدوا الفقه) (٤)؛ أي: أفسدوا الفقه.

وحتى يتضح عمق الحاجة لإعادة صناعة الفقيه الجديد فَلْنبتعد قليلاً عن حالنا اليوم وَلْنتأمل حجم التعقيدات الواقعية المستقبلية في ذهن المتعلم الذي نريد تأهيله ليكون فقيهاً لأمته بعد ثلاثين سنة؛ هل الطرق المنهجية المتداولة اليوم في الساحة العلمية كافية لتأهيل هذا الفقيه ليكون الرجل المناسب لتلك المرحلة؛ أم أننا بحاجة لآليات عملية جديدة تساعد في تأهيل الفقيه الجديد لتعقيدات المستقبل المنتظرة؟

أتصور أن هذا التساؤل هو من جنس التساؤلات الكبيرة التي من غير المنطقي أن يتلخص جوابها في مقال مختصر كهذا، وحَسْبُ هذا المقال أن يضع مجموعة من الرؤى التي يمكن أن تساهم في توضيح هذه القضية.

تجديد الفقيه مسؤولية مَنْ؟


(١) الاستقامة، ابن تيمية، (١/ ٥٦).
(٢) الاستغاثة في الرد على البكري، ابن تيمية، (١/ ٢٤٤).
(٣) فتاوى الإمام الشاطبي، (ص: ١٢٠ - ١٢٢).
(٤) المعيار المعرِب والجامع المغرِب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب، (١١/ ١٤٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>