للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يحيلنا الحديث عن مسؤولية تجديد الفقيه وتأهيله إلى الحديث عن واقع العمل المؤسسي في الوسط التعليمي الشرعي؛ فإن الراصد لحركة التعليم خارج إطار الجامعات والكليات يجد أنها تفتقد كثيراً لنظام مؤسسي مبنيٍّ على رسم إستراتيجيات تعليمية بعيدة المدى، وربما يصدق في واقعنا - وإلى حد كبير - ما قاله مالك بن نبي: «لم أكن أعلم أن العمل الجماعي بما يفرضه من تبعات إنما هو من المقومات التي فقدها المجتمع الإسلامي ثم لم يسترجعها بَعْدُ خصوصاً بين مثقفيه» (١).

فبينما نلاحظ توجُّها منظَّماً نحو تخريج النجوم والرموز في الفن والرياضة والإعلام، لا نجد جهداً يوازيه في تأهيل وتخريج وتطوير أصحاب التخصصات الشرعية، وإن الذي يتابع سِيَر كثيرٍ من فقهاء اليوم يجد أن الذي صنعهم في الغالب هو جهدهم الذاتي - بعد عون الله سبحانه - ولم تصنعهم مؤسسات تعليمية معيَّنة.

وإن ما سيُطرح من رؤى وأفكار حول هذا الموضوع - سواء في هذا المقال أو غيره - ربما تُفهَم على أنها دعوات مثالية، وهذا صحيح إذا ما نظرنا إليها على المستوى الفردي وليس المؤسسي؛ أما على صعيد المؤسسات فهي ليست كذلك، كما أن التطبيق العملي كفيل بأن يُهذِّب هذه المثالية حتى تتناسب مع الواقع العلمي.

تجديد ملكات الفقيه:

إن الدراسة الفقهية اليوم تتسم بالتقرير المدرسي من خلال دراسة الكتب المذهبية المعتمَدة، ويغيب فيها الدرس الذي يعتني بالتدريب الفقهي أثناء عملية التأهيل الفقهية، والذي يتدرب فيه المتفقه على مجموعة من المهارات الفقهية لتبني له عدداً من الملَكات العلمية؛ فالفقيه الجديد يتطلب في إعداده وتكوينه جملةً من المهارات التي تساعده في تحقيق رسالته بالشكل المطلوب في هذا الزمن، ومن المهارات التي ينبغي أن يُدَرَّب عليها الفقيه الجديد:

أولاً: بناء مَلَكَة التفكير الفقهي:

التفقه في أصله عملية فكرية؛ لأنه راجع في أصل معناه إلى (الفهم)؛ فهو نوع من ممارسة التفهم في نصوص الشرعية، وعملية التفكير هذه لا تتأتَّى من خلال التلقين المجرد للفروع الفقهية، وإنما من خلال توجيه الدرس الفقهي إلى حَلْقات علمية خاصة تهتم بتطوير عقلية المتفقه الجديد وتمرينها حتى تكتسب القدرة العالية على معالجة المسائل وإدراكها.

وحتى لا يجاهد المتفقه الجديد في غير ميدانه، ولا يستنبت عقليته في أرض غير صالحة؛ فمن المهم أن تكون عملية التمرين والتطوير في ميدانها المناسب، ومن تلك الميادين التي تساعد على تقوية تفكير الفقيه ما يلي:

١ - بناء الملَكة التي تعتمد على إرجاع فروع الشريعة إلى كليَّاتها العامة: وذلك حتى يُعرفَ مدى اطراد التشريع الإسلامي، ويتمكن الفقيه من إرجاع الفروع بعضها إلى بعض، وإظهارها على وجه متماسك مطَّرد.٠ والمتأمل في واقع التعليم الفقهي اليوم يجد أن الغالب عليه تقرير آحاد المسائل الفقهية بعيداً عن الاهتمام بربط هذه المسائل بمثيلاتها وما يعضدها من كليات الشريعة وأصولها الكبرى. يقول ابن رشد منبهاً إلى هذا المعنى: «رأينا أن نذكر في هذا الكتاب (كتاب الصرف) سبع مسائل مشهورة تجري مجرى الأصول لما يطرأ على المجتهد من مسائل هذا الباب؛ فإن هذا الكتاب إنما وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد ... وبهذه الرتبة يسمى فقيهاً لا بحفظ مسائل الفقه؛ لو بلغت في العدد أقصى ما يمكن أن يحفظه إنسان كما نجد متفقهة زماننا يظنون أن الأفقه هو الذي حفظ مسائل أكثر» (٢).


(١) مذكرات شاهد على القرن، مالك بن نبي، (ص ٢٣٦).
(٢) بداية المجتهد، ابن رشد، (١/ ٦٦٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>