للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبسبب فَقْدِ هذه الملَكة أصبح من غير المستغرَب أن يُقرِّر بعض الفقهاء مسألة في بابٍ على وجهٍ، ثم يقرر في نظيرها تقريراً مخالفاً لها في باب آخر وكلاهما يرجعان إلى تأصيل واحد. يقول ابن تيمية عن حال بعض متبعي الأثر ممن قلَّت معرفته بطريقة التعامل مع القياس الصحيح: «وتجد المستن الذي يشاركه في القياس قد يقول ذلك القياس في مواضع، مع استشعاره التناقض تارة، وبدون استشعاره تارة؛ وهو الأغلب» (١).أما الجويني فيقول أثناء بيانه لأصول مذهب الشافعي: «ومن أراد أخذ المذهب (أي: الشافعي) مِنْ حفظ الصور: اضطرب عليه أمثال هذه الفصول، ومن تلقَّاه من معرفة الأصول: استهان عليه أن يدرك هذه الفصول». وفي نهاية الأمر فإن «نقل الفقه إن لم يعرف الناقلُ مأخذَ الفقيه، وإلا فقد يقع فيه الغلط كثيراً» (٢).

٢ - بناء الملَكَة التي تراعى فيها الأحكام اللازمة عندما تتحول إلى أحكام عارضة؛ أي: عندما يتحول الحكم الواجب إلى حرام، والحرام إلى واجب أو مباح؛ بحسب العوارض التي تَعرِض لهذه الأحكام وَفْقاً لفقه الضرورة أو المشقة أو الحاجة: إن من يتأمل الفقه يجد أنه في الغالب يعطي المتفقه الأحكام اللازمة؛ لكنه في كثير من الأبواب قد لا يعطيه الأحكام العارضة، فهو يقرر الحكم بناءً على الأصل؛ لكن هذا الأصل قد يحتف به مجموعة من الأمور الواقعية التي قد تغيِّر من طبيعة النظر في المسألة؛ وحينئذٍ فإن طريقة التعامل معها محكومة بمجموعة من المعايير ليست من اهتمام كتب الفقه وإنما مجال بحثها: إما علم القواعد الفقهية: كقاعدة المشقة والضرورة والعرف ونحو ذلك. أو علم أصول الفقه في مبحث عوارض الأهلية، ومبحث الأسباب والشروط والموانع.

إن كثيراً من المتفقهة يمكنه أن يضبط قاعدة المشقة أو قاعدة الضرورة والحاجة من جهة التنظير الكلي العام لكنه قد لا يُحسِن تنزيلها على الواقع، وحينها ربما قد يحصل منه إفراط أو تفريط في التطبيق، وسبب ذلك: أنه لم يتدريب على ذلك في الدرس الفقهي، وهذا ما يؤدي به إلى ضعف الملكة في هذا الباب، كما أن التدريب على هذه المَلَكة وإن لم يُمَكِّن المتفقه من تنزيل بعض أحكامها على الواقع، فليس أقلَّ من أن يساعده على تَفهُّم بعض فتاوى العلماء التي ذهبت إلى القول بجواز مسألة هي في أصلها حرام بناءً على قاعدة الضرورة أو المشقة أو الحاجة أو العكس، وهذا التفهم من شأنه أن يساهم أيضاً في معالجة واحد من أهم أسباب الفرقة والتناحر التي يشهدها الوسط الشرعي. يقول ابن تيمية في ذلك: «فإن كثيراً من الناس يستشعر سوء الفعل، ولا ينظر إلى الحاجة المعارضة له التي يحصل بها ثواب الحسنة ما يربو على ذلك؛ بحيث يصير المحظور مندرجاً في المحبوب، أو يصير مباحاً إذا لم يعارضه إلا مجرد الحاجة ... » ثم تحدث عن الصورة الثانية وقال: «فهذا القسم كثر في دول الملوك؛ إذ هو واقع فيهم وفي كثير من أمرائهم، وقضاتهم، وعلمائهم، وعبَّادهم؛ أعني: أهل زمانهم، وبسببه نشأت الفتن بين الأمة» (٣).


(١) الفتاوى، ابن تيمية، (٤/ ٤٦).
(٢) اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، (٢/ ٥٤١).
(٣) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (٣٥/ ٢٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>