للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كما أن التدريب على هذا النوع من التفقه يُعيْن على إعادة حالة التوازن بين من جَعَل الحُكم العارض الذي فرضته بعض الظروف حكماً لازماً في جميع الأزمنة؛ لأن الخطأ في ذلك ربما يتسبب في الجناية على بعض أحكام الشريعة، وإلى هذا نبَّه ابن القيم عندما بيَّن خطأ بعض المتفقهة في فهم بعض تصرفات عمر - رضي الله عنه - فقال: «والمقصود: أن هذا وأمثاله سياسة جزئية بحسب المصلحة يختلف باختلاف الأزمنة، فظنها من ظنها شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة، ولكلٍّ عذر وأجر» (١).

٣ - بناء الملَكة التي تُحسِن التوازن بين اعتبار المدلول اللفظي للنص وبين تفعيل مقصوده: إن الدرس الفقهي اليوم يتحدث عن المقاصد وأهميتها حديثاً نظرياً، وهذا أمر إيجابي لا بد من تكثيفه؛ لكن هذا الدرس في المقابل لا يعتني بالتدريب الفعلي لتطبيق فقه المقاصد، والإشكال الحقيقي في هذا الموضوع يكمن في أن من يحسنون التنظير والضبط لموضوع المقاصد كثيراً ما يحصل بينهم نزاع أثناء التطبيق؛ وذلك لأن الدخول في التفاصيل هو الذي يبين دقة الفهم وعمق الإشكال، والطاهر بن عاشور أشار إلى هذا المعنى وبيَّن أن المفاصل الكبرى في باب المقاصد والمصالح والمفاسد، مقام سهل؛ لكن المشكلة تتعقد عندما تأتي التفاصيل والتطبيقات، فقال: «فأصول المصالح والمفاسد قد لا تكاد تخفى على أهل العقول المستقيمة؛ فمقام الشريعة في اجتلاب صالحها ودرء فاسدها مقام سهل، والامتثال إليه فيها هين. واتفاق علماء الشرائع في شأنها يسير، فأما دقائق المصالح والمفاسد وآثارها ووسائل تحصيلها وانخرامها فذاك المقام المرتبك؛ وفيه تتفاوت مدارك العقلاء اهتداءً وغفلةً وقبولاً وإعراضاً» (٢).

وهذا النوع من البحث المقاصدي التفصيلي هو البحث الأخطر في باب المقاصد. يقول ابن عاشور في موطن آخر من كتابه: «وفي إثبات هذا النوع من العلل (وهو ما كانت علته خفية) خطر على التفقه في الدين؛ فمِن أجل إلغائه وتوقِّيه مالت الظاهرية إلى الأخذ بالظواهر ونفوا القياس، ومن الاهتمام به تفننت أساليب الخلاف بين الفقهاء» (٣).

وإن تدريب المتفقه من زمن مبكر على محاولة التطبيق والتدريب على استعمال المقاصد في حقول التعليم الخاصة وتحت الإشراف العلمي المتزن، سيعين على تجنُّب كثير من مشكلات التفعيل المقاصدي التي نشهدها اليوم؛ فإنه على الرغم من الضعف التأصيلي لفقه المقاصد عند بعض من يمارسه إلا أن مشكلات التفعيل المقاصدي لا تنحصر في ذلك، بل من مشكلاته أيضاً: عدم امتلاك كثيرٍ ممن يمارس التفعيل المقاصدي لملَكة هذا التعامل التي تحتاج إلى قَدْر من الخبرة والنضوج حتى يمتلك الفقيه ناصيتها، وابن تيمية أشار إلى أهمية هذا النوع من الإدراك وأنه يتطلب خبرة طويلة وممارسة عملية فقال: «العلم بصحيح القياس وفاسده من أجلِّ العلوم، وإنما يعرف ذلك من كان خبيراً بأسرار الشريعة ومقاصدها وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد» (٤).


(١) الطرق الحكمية، ابن القيم، (١/ ٤٧).
(٢) مقاصد الشريعة، ابن عاشور، (ص ٢٥٨).
(٣) مقاصد الشريعة، ابن عاشور، (ص ١٥١).
(٤) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (٢٠/ ٥٨٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>