للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٤ - ويتبع ذلك بناء الملَكة التي تُحسِن التعامل مع فقه المصالح والمفاسد: وإن بناءَ هذه الملَكة سيساعد كثيراً في التعامل مع كثيرٍ من الوقائع المشكِلة، وسيساعد أيضاً - وبشكل كبير - على تجاوز كثيرٍ من الخلافات العلمية التي تحصل بناءً على عدم الاستيعاب الكافي لهذه القضية. يقول ابن تيمية: «وهذا باب التعارض باب واسع جداً، لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة؛ فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة؛ فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم؛ فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجِّحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجِّحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم العمل بالحسنات، وترك السيئات لكون الأهواء قارنت الآراء ... فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل؛ قد يكون الواجب في بعضها ... العفو عن الأمر والنهي في بعض الأشياء لا التحليل والإسقاط: مثل أن يكون نهيه عن بعض المنكرات تركاً لمعروف أعظم منفعة من ترك المنكرات فيسكت عن النهي خوفاً أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر» (١).

وهذه المهارات والمَلَكات الفقهية لا تؤخذ بمجرد التقرير النظري ما لم يكن معها ممارسة عملية تدريبية. قال رجل لإياس بن معاوية: علمني القضاء. فقال: «إن القضاء لا يُعَلَّم، إنما القضاء الفهم، ولكن قل: علمني من العلم» (٢).

إن المهارات التي نتحدث عنها هي من جنس مهارة القضاء، هي بحاجة إلى تطبيقات عملية من خلال إقامة دورات علمية متخصصة، أو إجراء حلقات حوارية تتبنى سياسة التدريب الفقهي، سياسةً عملية تنتقل من مجرد التجريد النظري لفقه المقاصد والمصالح والقواعد والضرورة إلى حلقات وبرامج تطبيقية تجمع عدداً من قضايا الواقع التي يلامسها المتفقه ولا يُحسِن التعامل معها ثم تُطرَح على طاولة النقاش والمباحثة العلمية.

وإن كثيراً من الحلْقات التي اهتمت بجانب المسائل الواقعية اعتمدت على أسلوب جمع بعض مسائل النوازل وتقرير الكلام فيها بعيداً عن الحوار والنقاش الذي يُرسِّخ في ذهن المتعلم مأخذ المسألة، ومواطن الخطأ والصواب أثناء عملية التطبيق، وإن أسلوب التقرير المجرد سيحوِّل هذه المسائل النوازل بعد زمن إلى متن فقهي جديد يحفظه الفقهاء الجدد دون وعي كبير بطريقة النظر وأسلوب المعالجة.

ثانياً: بناء ملَكة الاعتدال الفقهي:

إن نفسية الشخص التي تربى عليها، كثيراً ما تؤثر على طبيعة تعامله مع القضايا العلمية والواقعية، ومن المهم إحداث نوع من التوازن في التعامل مع طبيعة تكوين الإنسان وشخصيته؛ ولذلك يقول ابن تيمية عن جانب من كمالات الشيخين - رضي الله عنهما -: «كان من كمال أبي بكر أن يولِّي الشديد ويستعين به ليعتدل أمره، ويخلط الشديد باللين، فإن مجرد اللين يُفسِد، ومجرد الشدة تُفسِد؛ فكان يستعين باستشارة عمر وباستنابة خالد ونحو ذلك ... وأما عمر فكان شديداً في نفسه؛ فكان من كماله استعانته باللين ليعتدل أمره، فكان يستعين بأبي عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة الثقفي» (٣).


(١) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (٢٠/ ٥٧).
(٢) تهذيب الكمال، المزي، (٣/ ٤٣٥).
(٣) منهاج السنة، (٦/ ١٣٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>