للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن نفسية الفقيه ليست بمعزل عن هذا الكلام؛ فقد تؤثِّر نفسية الفقيه في اختياراته الفقهية، وفي طريقة عرضه للمسائل والخلاف الفقهي، وفي هذا المعنى يقول ابن حزم: «إن الناس مختلفون في هممهم واختيارهم وآرائهم وطبائعهم الداعية إلى اختيار ما يختارونه وينفرون عما سواه، متباينون في ذلك تبايناً شديداً متفاوتاً جداً: فمنهم رقيق القلب، يميل إلى الرفق بالناس، ومنهم قاسي القلب شديد يميل إلى التشديد على الناس ... ومنهم معتدل في كل ذلك يميل إلى التوسط، ومنهم شديد الغضب، يميل إلى شدة الإنكار، ومنهم حليم يميل إلى الإغضاء» (١).

وفي ظل هذا التنوع الكبير في نفسيات المتلقين فإن واحداً من أهم عوامل بناء الاعتدال الفقهي وضبط عملية التوازن، هو أن يتعلم المتفقه الجديد مرتبة الخلاف في المسائل التي يتلقاها؛ وهذا من خلال معرفة ضوابط الخلاف السائغ وغير السائغ بين العلماء، وكيفية التعامل مع كل نوع من هذه الخلافات من حيث القائلُ، والقولُ، وطريقةُ المناقشة؛ لا يتعلمه من الجهة النظرية فحسب، بل يتعلمه من الناحية التطبيقية، فيُعْرَض عليه كثير من المسائل ليطبِّق عليها تلك الضوابط؛ لأن بناء النفسية المعتدلة في الأداء الفقهي يحتاج إلى تدريب وممارسة من خلال عقد حوارات علمية تعليمية يتدرب فيها المتفقه على أسلوب النقاش والحوار، وعندما يتدرب على ممارسة الحوار والنقاش في مكان علمي هادئ، سيتمكن من تطوير نفسه في التعامل مع أقوال الآخرين.

لقد نجح خطابنا الفقهي في تربية المتفقه على لغة الراجح ولغة البحث عن الدليل؛ لكن هذا الجانب - على أهميته - لا يكفي وحدَه؛ بل لا بد أن يتربى وعي المتفقه - بالإضافة إلى القول الذي يختاره ويدين اللهَ به - على معرفة كيفية التعامل مع الأقوال الأخرى التي لا يعتقد رجحانَها، وهذا يعني أن ينضم إلى لغة الراجح والمرجوح لغةُ الخلاف السائغ وغير السائغ، وإن هذا التدريب سيجنِّب المتفقه التعصب لهذا الراجح الذي يعتقده؛ ليس من جهة الالتزام به وإنما من جهة عدم اعتداده بالأقوال الفقهية المعتبَرة الأخرى لمجرد أنها ليست راجحة.

وإن إدراك هذا الجانب مهم في تكوين الفقيه. يقول ابن تيمية عن حال غالب الفقهاء وعدم تمييزهم بين درجات المسائل وهو ما يفقدهم الاعتدال في تقرير حكمها: «وأما الخائض فيه (أي: الفقه) فغالبهم إنما يعرف أحدهم مذهب إمامه، وقد يعلمه جملة، لا يميز بين المسائل القطعية المنصوصة والمجمَع عليها، وبين مفاريده، أو ما شاع فيه الاجتهاد؛ فتجده يفتي بمسائل النصوص والإجماع من جنس فتياه بمسائل الاجتهاد والنزاع ... لكن هؤلاء ليسوا في الحقيقة فقهاء في الدين، بل هم نَقَلَة لكلام بعض العلماء ومذهبه» (٢).

تفعيل مهارة البحث الفقهي:

عندما لا يتسلح الفقيه بقدر كافٍ من الملَكة البحثية فمن الممكن أن يؤثر ذلك على صناعته الفقهية، وكثيرٌ من المتعلمين لا يملك إلا قدراً متواضعاً من معرفة المصادر العلمية، ومناهجها، وكيفية التعامل معها، وهذا يتطلب حلقات تعليمية لا تكتفي بمجرد سرد المصادر وبيان طرق وأساليب البحث؛ بل تنتقل إلى داخل أروقة المكتبات العامة، لتُعَرِّف المتفقهةَ الجدد بمصادر العلوم، ومن ثَّم تكليفهم ببحوث عملية داخل هذه المكتبات، وتقيم عدداً من المناقشات العلمية حول بعض البحوث المعاصرة ومعرفة مَواطن التميُّز المنهجي فيها ومواطن الضعف.


(١) الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، (٤/ ١٣٨).
(٢) الاستقامة: ١/ ٦٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>