وقد ظهر عند كل أمة، أن الأمة تفكر بلغتها، وأعظم تأسيس للعقل المفكر: أن يكون مدركاً لما يقرأ، ومعلوم أنه كلما كان الإنسان متمكناً من حفظ وإتقان كتاب الله كلما كان محباً للقراءة، متمكناً من فهم وإدراك ما يقرأ، الكل بالكل والحصة بالحصة؛ لذلك كان الغالب على هذه الفئة أنها أينما توجهت في التخصصات المختلفة تبذ غيرها إدراكاً وإبداعاً.
وإن الأمة في عمومها يوم أن جعلت مناهلها غير هذا المنهل العذب الصافي، والمصدر اللجَب الكافي، ورضيت المناهل التي كدرها وطء الرعاء، ونزح الدلاء، وجدناها كلما أرادت أن تخطوا إلى الأمام خطوة من خطوات رجعت إلى الوراء خطوات في خطوة:((إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)).
وإن بني يعرب لما ترك جمهورهم تعليم أبنائهم مصدر عزتهم وقوتهم ورفعتهم، متوهمين أنهم بذلك يخطون خطوة نحو عالم الغرب الأول، وجدناهم من تدهور إلى تدهور أشدّ منه.
وإنّ الحدث الذي مرّ بنا منذ السابع عشر من شهر شوال من العام ١٤٣١هـ وانتهى - بإذن الله تعالى- بعد مرور خمسة وثمانين يوماً عجافاً، توقفت فيها حلقات تحفيظ القرآن الكريم في منطقة مكة المكرمة، وانصرف ستة آلاف معلم للقرآن، و١٨٥ ألف طالب ينتظرون ويترقبون عودة الحلقات إلى أن يسر الله تعالى عودتها.
إنّ هذا الحدث يحمل في طياته منحاً في محن، وعبراً بيّنات تجود بها تأملات، أحببت أن أضع بعضها بين يدي القارئ الكريم، علّها تكون سبباً في انقداح غيرها من العبر في عقول المتأملين، ونفتح الباب لتلقي دروسنا من هذه الحادثة، ونسعى لنستفيد منها في مستقبل أيّامنا، ولا يغرّ بطيب العيش إنسان، وإلاّ فإنّنا سنظل نتلقى الصفعات تلو الركلات، ونحن لم نستطع أن نضع وسيلة لتلافيها، وسنظل نرى من ينام بين كل ركلة وركلة، وبين كلّ صفعة وأختها.
وأولى هذه العبر: أنّ كتاب الله تعالى محفوظ بحفظ الله، {إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} *الحجر: ٩*، فهذا وعد متحقق جزماً ويقيناً، والله لا يخلف الميعاد، ومن رحمة الله بنا أنّه لم يكل حفظ كتابه إلينا، وكتاب الله ليس بحاجة إلى دفاعنا عنه، بل نحن بحاجة إلى تمسكنا به؛ لذلك نحن لا نخاف على كتاب الله تعالى، وإنّما نخاف من ذنوبنا أن تكون سبباً في حرماننا منه، وفصلنا عنه.
ثانيها: ضعف دعمنا الشعبي للجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم كان من أسباب وقوف هذه الجمعيات عاجزة عن جعل عمل معلميها وظيفة رسمية، يتقاضى عليها المعلم راتباً يعيش به حياة كريمة، ويترقى من مرتبة إلى مرتبة، ويكون كغيره من الموظفين الذين يجدون مرتباً بعد تقاعدهم يستطيع كلّ منهم أن يعيش به عيشة كريمة، وينال الحقوق التي كفلتها الدولة للموظفين والعمال حين ينطبق عليه نظامهم، لا أن يكون كريشة في مهب ريح.
ثالثها: ظهر أنّنا لا نملك خطة بديلة في حال الطوارئ، فما إن أقفلت الحلقات حتى وجدنا الناس بين صمت مخيّم على أجوائهم، وصدمة ملأت نفوسهم، وتحيّر شوّش تفكيرهم، وبدأت عمليات الإسقاط تتوالى، كلٌّ يريد تبرئة نفسه، ورمي لوم التقاعس على غيره، وتناسى أنّه مطالب بالعمل كما أنّ غيره مطالب بالعمل، وإن كانت درجات المطالبة تتفاوت، ونوع العمل يختلف، إلاّ أنّه على كلّ حال مطالب بالعمل من أجل كتاب الله عزّ وجلّ، وتقصير المقصّر ليس عذراً لمقصّر آخر، ولا حجّة يتذرع بها؛ لينجو من المسؤولية الملقاة على عاتقه، وما كان كلّ ذلك ليقع لولا أنّنا مقصّرون في وضع خطط للطوارئ.