وأتذكر أنّه في زمن سيطرة الاتحاد السوفيتي على بلدان المسلمين في وسط آسيا (الجمهوريات الإسلامية)، كانت تأتينا أنباء من بعض من كان يزور تلك الديار ذات الجدار الحديدي، أنّ المساجد عُطّلت، وأصبحت قراءة القرآن وكتب الدين تعد جريمة يعاقب عليها القانون الشيوعي، وأنّ النّاس أبعدوا عن دينهم، ومنعوا من كتاب ربهم قسراً، ومع ذلك كانوا يدخلون الأقبية يتعلمون فيها القرآن، وكنت أسمعه كضرب من الأساطير.
وفي حجّ عام ١٤١٦هـ كنت والشيخ طلال بن أحمد العقيل، والدكتور رضوان بن حسن الرضوان مع سماحة شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، في زيارته المعتادة التي كان يقوم بها كل عام قبل وبعد الحجّ؛ ليلتقي حجاج الخارج في المطار، وزرنا حجاج دولة من الدول الإسلامية التي خرجت للتو من نير السيطرة السوفيتية، وكانوا قد نزلوا من طائرتهم، ينتظرون إنهاء إجراءات جوازاتهم، وكان جمهورهم من كبار السن الذين شابت لحاهم، فطلب الشيخ مترجماً، فوجدنا أحد المطوفين الذين يتكلمون لغتهم لكنه لا يجيدها، وبدأ الشيخ حديثه معهم في بيان توحيد الربوبية الذي ولج منه إلى تقرير الألوهية، ولم يرعنا إلا صوت شاب يركض من بعيد، وينادي بصوته: أنا أترجم .. أنا أترجم، فأعطاه مكبر الصوت، وبدأ يترجم ويتكلم بطلاقة، ورأينا المستمعين يبدو عليهم التأثر أكثر، وبعد أن فرغ الشيخ، أقبل على الشيخ يسأل: من الشيخ؟ فرد الشيخ مبتسماً: محمد بن عثيمين. وإذا بالشاب ينظر إلى الشيخ باندهاش، ويقول بصوت عال: الشيخ محمد؟! قال: نعم. قال: ابن صالح؟! قال: نعم. قال: ابن عثيمين؟! قال الشيخ: نعم. وإذا بالشاب يضم الشيخ ويقبل رأسه ويبكي، ثم قال للشيخ: يا شيخ، أتأذن لي أن أبلغهم، من أنت؟ قال الشيخ: نعم.
وكان الشيخ ونحن معه في دهشة من أمره، فأخذ الشاب مكبر الصوت وحدثهم بكلام لم نفهم منه إلاّ اسم الشيخ، ولقد كان منظراً مؤثراً تأثرنا به جميعاً، حين رأينا الشاب يخبرهم وهو فرح متأثر، وما إن ختم كلامه حتى رأينا أصوات بكاء الحجاج، واللحي قد خضبت بالدموع، وقاموا يصطفون أمام الشيخ، وهذا زاد من دهشتنا، فالتفت الشاب إلى الشيخ، وقال: يا شيخ، هؤلاء كلهم طلابك، لقد كانوا يقرؤون القرآن، ويتفقهون على كتبك وبرامجك الإذاعية في الأقبية تحت الأرض، يا شيخ كلهم يعرفونك، ولكنهم لم يروك، وقد بكوا فرحاً برؤياك، وهم يستأذنونك في السلام عليك، ثم سلموا على الشيخ، وانصرفنا.
لقد تمكن هؤلاء الناس في الأقبية تحت نير الحكم الشيوعي أن يواصلوا حفظ كتاب الله، ويتفقهوا بما يمكنهم الوصول إليه من كتب العلماء، ولم يقولوا: لم لم يفعل فلان كذا؟ ولم لم يقل فلان كذا؟ بل عملوا هذه الخطة التي دامت أكثر من سبعين سنة، فحفظ الله تعالى لهم دينهم بها، فما بالنا نحن تعطل فينا كلّ شيء بأدنى هزة؟!
رابع هذه العبر: رأينا سنّة الله تعالى في الشامتين من بعض المتلبرلين، الذين طبلوا وزمروا فرحاً بالخبر، حتى أنّ أحدهم كتب في موقع من مواقعهم: هذه خطوة جريئة إلى الأمام، قطعت الصلة بمصدر من مصادر الخرافة والرجعية في هذا الزمن. ويا لها من كلمة {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} *مريم: ٨٩ - ٩٠*. وقام بعضهم بكيل التهم ضد إخواننا الذين علّمونا وعلموا كبار مشايخنا القرآن الكريم، فمنهم من اتهمه بالإرهاب، ومنهم من اتهمه بانحراف في العقيدة ... إلخ.