فهو إنسان لم يستوعب بعد أن المسلم لن يبحث عن فائدة أعظم من امتثال أمر الله، والقيام بما يريد الله.
ولو قال قائل: (هم يعرفون أنه حرام وربّما يكونوا أعلم منك به فلا معنى لإنكاره) فقد غاب عنه أن هذه الشعيرة ليست موجهة إلى تعليم الناس ما جهلوه فقط، بل التعليم جزء من هذه الشعيرة وليس هو كلّ الشعيرة.
وسنجد في القرآن من مقاصد هذه الشعيرة: تحصيل المعاني الشريفة التي ألبسها الله للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكرين.
فقد وصف الله هذه الأمة بالخيرية لقيامها بهذه الشعيرة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} *آل عمران:١١٠*
ووصفها بالفلاح بسبب ذلك: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} *آل عمران: ١٠٤*.
وجعله من صفات المؤمنين، ورتّب لهم الرحمة بسببه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} *التوبة:٧١*
كما ذمّ الله التاركين لهذه الشعيرة المفرّطين فيها فقال سبحانه: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} *المائدة:٦٣*، وعابهم فقال تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} *المائدة:٧٩*
فالفلاح والخيرية والرحمة وغيرها من المعاني العظيمة هي ثمرة من ثمار القيام بهذه الشعيرة، وإهمالها سبب للعيب والذم والهلاك.
إذن؛ فمن غير المتوقّع ممن فهم هذه المقاصد وكان مستحضراً لها أن يكون اعتراض بعضهم (بأنّ طبيعة الاحتساب تجعلك إنساناً غير مقبول لدى قطاع كبير من الناس، وربّما ينفرون منك ويستثقلون مجالسك، فالسكوت والمداراة والدخول في الموضوعات المشتركة يجعلك أكثر جاذبية وأقدر على التواصل والتعايش) لن تكون هذه إلا ممازحة ثقيلة الاعتبار لأنّ مقامه عند الله لا يدانيه شيء، وهو يستحضر أن استجلاب رضا الناس هبة ربانية لطالما حُرم منها من داهنهم، ووهبها الله لمن كان صادقاً معهم ولو خالفوه (من التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس).
لا يشكّ أحد أن المحتسب يضحّي بقدر واضح من سمعته ومكانته وتقدير الناس له من جرّاء هذا الأمر، فمن يدخل في مكان تصدع فيه أصوات الموسيقى فيقوم ناصحاً لهم أو من يحضر في مجالس تلاك فيها أعراض الناس فينصحهم وينكر حديثهم ... فربما يكون في محلّ امتعاضهم وتذمّرهم من وجوده لكنّ هذا ثمن لا بدّ أن يقدّم لتحصيل المقامات العالية.
وأما حين يكون المحتسب لديه سلطة تجعله حائلاً بين بعض الناس وشهواتهم - كالقائمين على جهاز الحسبة - أو حين يلتهب غيرة على انتهاكات من لديهم سطوة الإعلام فإنه سيناله من التشويه والإسقاط والتبشيع ما لا يقدره له إلا الله.
ومن مقاصد الاحتساب في الشريعة: تغيير المنكر وإزالته وتطهير المجتمعات المسلمة منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)
فالأمر بالمعروف في مقصود الشريعة يراد به (الدعوة إليه وتثبيته والإلزام به)، والنهي عن المنكر في مقصود الشريعة يراد به (إنكاره ومنعه وإزالته).