للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فحين يحاول بعضهم تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع (سحب وصف الإلزام والمنع) فيكون من باب النصيحة والتعبير عن الرأي من دون أي فرض أو إلزام فيقول: (ينصح الإنسان ويبين له المنكر لكن من دون فرض وصاية عليه) فهو رأي بعيد عن المعنى الشرعي لهذه الشريعة.

هي محاولة تلفيقية لتقريب مفهوم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من المفهوم العلماني، لأنّ العلمانية لا تعارض من تعبير الإنسان عن رأيه فيُظهر ما يراه معروفاً وُينكر ما يراه منكراً، لكن من المرفوض والمستهجن تماماً أن يكون ثمّ فرض أو إكراه لأحد على أن يفعل أمراً أو يترك شيئاً بناءً على أن ذلك حكم الشريعة، لأن ذلك من قبيل انتهاك الحريات وفرض الوصاية على الآخرين.

ليس هذا التلفيق جديداً، فقد اعتادت ذاكرتنا الفكرية المعاصرة أن كلّ حكم شرعي يواجه بمعارضة ورفض علمانية لا بدّ أن يقوم من الإسلاميين من يتطوّع لمحاولة تقديمها بصورة تكون مقبولة لديهم، من خلال التقليم والتقزيم للمفهوم الشرعي حتى يبدو مقبولاً.

إذن؛ فحين تنهى الشريعة عن أمر، فلا يكفي أن يكون التعامل معه فقط بالنصيحة وإبداء الرأي من دون أن يكون ثمّ تدخل قانوني ونظامي من الدولة للإلزام به، فكلّ المحرمات في الشريعة تدخل في ضمن نطاق الممنوع نظاماً، لا يجوز انتهاكه ومن فعل فهو معرّض للعقاب.

يعترض البعض على هذا الكلام (أن كثيراً من المحرمات في الشريعة لم تحدد الشريعة لها عقاباً معيناً مما يعني أنّه لا يلزم معاقبته ولا منعه).

وهنا خطأ فاحش، فعدم وجود عقاب محدد لا يعني أن الفعل يكون مشتهراً لا يمنع منه الإنسان، فيكفي أن الشريعة حرّمته حتى يكون ممنوعاً نظاماً، وحين يكون ممنوعاً نظاماً فلا بدّ من عقاب لمن ينتهك النظام والقانون.

هذه مقدمات بدهية، [فالمحرم لا بدّ أن يكون ممنوعاً] و [الممنوع لا بدّ أن يجازى من ينتهكه] وقد يسقط عنه العقاب، لكن لا يمكن إسقاط العقوبة مطلقاً عنه، لأنّ إسقاطها مطلقاً يعني أنّك تمنع الناس من شيء وتبيح لهم في نفس الوقت أن يفعلوه مراراً وتكراراً من دون أن تفعل شيئاً، وهذا يؤدّي تلقائياً إلى أن لا يكون ممنوعاً، وحينها يكون مثل المباح مثلاً بمثل، وهذا منافٍ تماماً ومناقض لمقصود الشريعة من جعله منكراً.

مثال يوضّح المقصود: فحين تحرّم الدولة نظاماً أن يقطع الإشارة وهي حمراء، فلا بدّ أن يكون ثمّ نظام وقانون يمنع مثل هذا الأمر، وحين يقع الشخص في المخالفة فلا بدّ من مجازاته، وقد تسقط عنه العقوبة لأي سبب كان لكن لا يمكن أن تمنع الدولة شيئاً من دون أي جزاء، لأن معنى هذا أن يقطع الإنسان الإشارة مرة وعشرين وألف من دون أي جزاء، وهذا يجعل قطع الإشارة كمثل أي شيء غير ممنوع فلا قيمة لكونه ممنوعاً، وحين لا يكون ممنوعاً فيكون إذن من قبيل المباحات تماماً.

كذلك الأمر في بقية الأحكام الشرعية (فالخمر حرام، والربا حرام، والطعن في الشريعة حرام، ونشر البدع حرام ... ) فلا بدّ أن تكون ممنوعة نظاماً، وأن يكون ثمّ جزاء لمن يخالف، وحين يشرحها الإنسان على أنّها محرمات فقط في الشريعة لكنها في الواقع والنظام ليست محرّمة فهو تصوّر علماني للشريعة الإسلامية، يتصوّر أن في الإمكان أن يكون (ثمّ محرّم في الشريعة) وليس هو (محرّم في النظام والقانون) وهذه هي فلسفة العلمانية في عزل الدين عن الدولة.

وإذا عرف هذا الأصل زالت كافّة الإشكاليات التي تثار على طبيعة عمل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه يقوم ببعض الواجب في منع المنكر وإقامة المعروف.

<<  <  ج: ص:  >  >>