فقائل: (أن الأمر والنهي في الشريعة لا يحتاج لسلطة وإنما هو واجب اجتماعي يقوم به الناس) فهو بهذا يسقط صفة القوّة والإلزام التي تتّصف بها هذه الشعيرة لتكون قريبة من المفهوم العلماني.
وينفي آخر (صلاحية الدولة للتدخّل في مثل هذه القضايا لأنّ هذا ليس من اختصاصها) وهذا مبني على اعتقاد أن الدولة تكون محايدة في قضايا الدين كما هي الرؤية العلمانية.
والمقصد الرابع لهذه الشعيرة: الإعذار إلى الله، كما ذكر الله ذلك في المناظرة التي جرت بين الفئة التي سكتت عن جريمة أصحاب السبت مع الفئة التي أمرت ونهت {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} *الأعراف:١٦٤*.
فمن مقاصد هذه الشعيرة ومعانيها أن يقوم المسلم بالواجب حتى يبرأ ويعذر أمام الله.
ليس المطلوب أن يتغيّر المنكر ويزول، أبداً ليس هذا هو المقصود الوحيد، إن حصل فبها ونعمت وإلا فقد حصل الإعذار، فحين يعترض شخص متندراً (بأنّ هذا المنكر لن يزول وأن خلفه مؤسسات ونظم وقوى ... ) فهو لا يدري ما مقصود الشريعة من هذا الاحتساب؟
فالحديث المتكرر من بعض الناس من أنّ (هذا المنكر منتشر وظاهر وكلّ الناس تفعله فلا حاجة لإنكاره) كلام من لا يعي ماذا يريد المحتسب من هذه الشعيرة.
نعم، لو كان المحتسب يعلم يقيناً أو غلب على ظنّه أن الشخص الذي وقع في الخطأ لن يقلع أبداً عن فعله ولن يستفيد بتاتاً من نصيحته فقد ذهب بعض العلماء إلى أنّ هذا يكون سبباً لسقوط وجوب الأمر والنهي خلافاً للرأي الآخر - وقد حكاه بعضهم قولاً للعلماء - ممن يرون أن الوجوب لا يسقط بسبب هذا. [انظر الآداب الشرعية: ١/ ١٥٥]
لكن لاحظ أن الخلاف هنا في سقوط (الوجوب) وليس في سقوط (الأمر والنهي) فهو مشروع على كلّ حال وربّما يقول بعضهم هو جائز، لكنهم في النهاية لا يمكن أن يكون حالهم حال من يتعامل مع المحتسب في هذه القضايا على أنه (قليل بصر وضعيف فقه وغير مدرك للمقاصد الشرعية) بل وربّما تحمّس قليلاً فقال (هم سبب زيادة المنكرات)!
على أنّ الحديث عن عدم تأثير الأمر والنهي حديث تثبيطي بعيد عن الواقع، فللقيام بهذه الشعيرة دور عظيم التأثير في إصلاح الأوضاع وتعديل السلوك وتقويم الانحرافات بما لا يخفى، لكن هذه الروح الكسولة تبثّ فيروساً قاتلاً لإحساس أي شخص يريد أن يقوم بأداء هذا الواجب، بحيث أنه سيتقاعس حتى عن المنكرات التي يجزم هو بإمكانية تغييرها أو يغلب على ظنه، ومع ذلك فلن يفعل شيئاً، لأن الضعف قد سرى في روحه وسكن قلبه فما عاد يفكّر في أي إصلاح، بخلاف أصحاب العزائم والهمم فإنهم كثيراً ما يصلح الله على أيديهم من الأمور المستعصية ما لم يكونوا يحتسبون، ولو التفتوا لهذه الدعوات لما قام آمر ولا ناهٍ.
على أنّ الإصلاح ليس بالضرورة أن يكون لجميع الناس ولكافة المجتمع، يكفي أن يتحقق الإصلاح ولو على بعض الأفراد، فإصلاح بعض الناس أو بعض السلوك هو مقصد ومطلب شرعي.
يا أخي: افترض عدم وجود أي إصلاح ولا تأثير، يكفي أن تبقى المفاهيم والمعاني الشرعية ثابتة في النفوس، يكفي أن يعرفوا أن الخمر حرام والربا حرام والموسيقى حرام والتبرج حرام ولو كانت هذه المحرمات ضاربة بأطنابها في المجتمع، يكفي أن تكون الأحكام ثابتة لم تنسى ولم تمت، وبقاء الأحكام كفيل بإصلاح الأمور ولو بعد حين.