فمن يكرر القول دائماً وأبداً بأنه (لا يجوز أن يترتب على المنكر منكر أعظم منه) كلام صحيح لكن تكراره وإعادته بمناسبة وغير مناسبة لا يعدو أن يكون تثبيطاً وتخذيلاً، فهذا شرط استثنائي لا يصحّ أن يكون هو الأصل في تقرير هذه الشعيرة، فالأصل أن تأمر وتنهي وتنصح وتذكّر وفي حالة وجود مثل هذا الأمر يتوقّف الإنسان، لا أن يكون هذا هو الأصل والقاعدة المستمرة.
على أنّ هذا الأصل يجب أن يبقى استثنائياً ويجب أن يكون صادقاً ودقيقاً فلا بدّ أن يكون ثم منكر فعلا يترتب على هذا الإنكار وقد تأكّد الإنسان من وجوده، ولا يصح أن يكون مثل هذا الكلام إيراداً ثابتاً يتحرّك في كلّ قضية.
والمؤلم حقاً أن هذا الكلام يشاع في وقت ضعف القيام بهذه الشعيرة، وانتشار التفريط الكبير فيها بين أوساط الناس، فبدلاً من أن يشدّ عزم الناس للقيام بها وإحياء معالمها، يزيد المشكلة ويعمّق الخطأ بمثل هذه التبريرات الباهتة.
قولوا لي بربّكم: لو جاء شخص فتحدّث عن الصدقة بهذه الطريقة:
(الشخص قبل أن يتصدّق عليه أن يتأكد أن يضع صدقته، فقد يترتب على صدقتك منكرات مفاسد وجرائم، فحرام عليك أن تتصدّق في هذه الحالة وأنت آثم ومفرّط حينها) وإذا سمع أحداً يتحدث عن الصدقة جاءه تحفّظ على دعوته للصدقة بأنّ الصدقة ليست مقبولة دوماً، بل قد تكون وبالاً على صاحبها، ولا يكفي أن يتصدّق الإنسان حتى ينال رضا الله والجزاء الحسن .. إلخ.
لا شكّ أنّ تصرّف مقيت ومستهجن، لكنه هو ذات الأسلوب الذي يمارس مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويطالب بعضهم فيقول: (الحكمة والعقل أن نقبل ببعض المخالفات الشرعيّة لأنّ مجيئها حتمي الوجود، فلنقبل بها أول الأمر مع وضع الضوابط خير من رفضها مطلقاً فتأتيك بصورة أعظم من دون ضوابط).
يبدو شكلها جميلاً حقاً، أن تأتي بالمنكر بنسبة ٤٠% مثلاً هذا اليوم، خير من أن يأتيك بعد أسبوع أو شهر أو سنة بنسبة ٩٠%، فهذه الحسبة الرياضية رائعة جداً، لكن هذا التفكير الرياضي غير قادر على إيجاد مثال واحد فقط على هذه النظرية، سيتحدث طويلاً لكنه لن يتمكن من أن يذكر واقعة ارتكب فيها المنكر استعجالاً فحفظ بسبب ذلك من قدوم المنكر الأشنع ببركة الاستعجال في تقديمه، فالذي يحصل أن مثل هذا التفكير يضعف جانب مواجهة المنكر ونصح أصحابه ويخفف من حرارة المجتمع من وجوده حتى يمرّ مرور الكرام، وأما نسبة التخفيف فهي خيالية تجريدية تعيش في ذهن صاحبه ولا قيمة لها في الواقع، بل الواقع يقول إن المعارضة والممانعة والرفض هو الذي يخفف المنكر القادم، وهو الذي يجعل ثم ضوابط واحتياطات له، لأنّ أكبر عامل يحسب أمره هو عامل الرفض الشعبي وموقف الناس ونفرتهم، فحين لا يكون ثم أي رفض فلا معنى لأن يخفّ حضور هذا المنكر.
البنوك الإسلامية لم تنشأ إلا من جراء الرفض العلمي الكبير للبنوك الربوية، فعاشت البنوك الربوية فترة ثم نهضت البنوك الإسلامية، ولو أن المشايخ في ذلك الوقت قالوا: (نأخذ بجواز الربا ونبحث عن تأويل أو قول مرجوح هنا أو هناك ونضع بعض القيود خير من ارتكاب الناس للحرام) لما قامت البنوك الإسلامية أبداً، وقل مثل هذا في الإعلام الإسلامي وغيره.
ويبالغ بعضهم فيضع الشروط والقيود التي يجب أن يلتزم بها المسلم قبل أن يأمر أو ينهي أو ينصح فيضعون من الشرائط ما تؤدّي إلى (إجهاض) هذه الشعيرة وإماتتها في النفوس.