للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأصبحت الجرأة على الفتوى المخالفة للنّصوص سمة بارزة لرموز هذا المنهج، مدّعين بذلك التّيسير على النّاس، حتى أبطلوا شرائع، وأحدثوا في دين الله أمراً جللاً، استغلّه أفراخ العصرانيين ومدّعو الاستنارة في تقنين التّفلّت من الدّين، وتشريعه؛ ليكون فقهاً عصرياً يناسب المرحلة الراهنة، وهي - للأسف- هرطقة تتلبس بلباس المصلحة، وتتّخذ من المنهج التّيسيري مركباً تركبه، ووطاءً تطؤه، فيفضي ذلك إلى تحريف الشّريعة. قال ابن القيّم في سبب تحريف شريعة النصارى: «وانضاف إلى هذا السبب ما في كتابهم المعروف عندهم بافر كسيس أن قوماً من النصارى خرجوا من بيت المقدس وأتوا أنطاكية وغيرها من الشام، فدعوا الناس إلى دين المسيح الصّحيح، فدعوهم إلى العمل بالتوراة، وتحريم ذبائح من ليس من أهلها، وإلى الختان وإقامة السبت، وتحريم الخنزير وتحريم ما حرمته التوراة، فشقّ ذلك على الأمم، واستثقلوه، فاجتمع النصارى ببيت المقدس وتشاوروا فيما يحتالون به على الأمم ليحبّبوهم إلى دين المسيح، ويدخلوا فيه، فاتفق رأيهم على مداخلة الأمم والترخيص لهم والاختلاط بهم، وأكل ذبائحهم، والانحطاط في أهوائهم، والتخلّق بأخلاقهم وإنشاء شريعة تكون بين شريعة الإنجيل وما عليه الأمم» [هداية الحيارى ص (٢٦٦ ـ ٢٦٧)] ..

ولهؤلاء (التيسيريّين) طرق شتّى في تطبيق هذا المنهج منها:

١ ـ التّوسّع في قاعدة الضّرورات.

فيسوّغون مخالفة النّصوص الشّرعيّة بكلّ ما يعتبرونه ضرورة، وإن كان ليس كذلك، ولو لم تنطبق على الحالة شروط الضّرورة المعتبرة عند الفقهاء والعلماء الّذين بيّنوا متى يمكن اعتبار الحال ضرورة يُسوّغ معها الاستثناء من النّص.

كمن يفتي بجواز سفر المرأة إلى ديار الكفر للدّراسة للضّرورة، فأين هي الضّرورة المسوّغة لمخالفة النّهي عن سفر المرأة بلا محرم وإقامتها في بلاد الكفّار؟!

٢ ـ التّوسّع في القول بالمصلحة.

وهذه من بدع العصر الحاضر؛ إذ كان القول بالمصلحة والتّوسّع فيها مسوّغاً ليس فقط للقول على الله بلا علم وتشريع ما لم يأذن به الله، بل كان باباً يلج منه كلّ من أراد التّصدّر للفتوى، ولهذا دخل في القول في مسائل الشّرع بعض من لا يفقه؛ إذ تصوّر هؤلاء أنّه بمجرّد علمه ونظره في المصالح يستطيع الاجتهاد في مسائل شرعيّة، مستدلاً بأقوال من مثل مقالة ابن القيّم «حيثما وجدت المصلحة فثمّ دين الله»، ونسي أو جهل هؤلاء أنّ هذا يسوغ في حالة فقدان النص العام أو الخاص، والحاجة إلى الاجتهاد في المصلحة، والموازنة، أمّا الولوج إلى الكلام في المسائل الشّرعيّة دون علم بما في النّصوص والآثار خصوصاً من الأحكام فيها وفي مثلها؛ فهذا في الحقيقة تقديمٌ بين يدي الله ورسوله، والله تعالى نهى عنه، وقد تقدّم الكلام فيه عند الكلام في الاستصلاح فيما مر.

٣ ـ تتبّع الرّخص والأقوال الضّعيفة والشّاذّة.

فإذا ضاق بهؤلاء الأمر لجؤوا إلى التّفتيش عن الأقوال والمذاهب الشّاذّة والضّعيفة المخالفة للنّصوص فأفتوا بها مع علمهم بمخالفتها للنّصوص؛ وحجّتهم في هذا أنّ لهم سلفاً في قولهم، وهذا ليس بسائغ في الحقيقة، بل إذا جاء النّص فبراءة إلى الله وإلى رسوله من كلّ قول يخالف الكتاب والسّنّة ولو قال به من قال، فكيف إذا كان القول محكوماً عليه بالشّذوذ والضّعف.

٤ ـ التّلاعب بالألفاظ الشّرعيّة.

كلّنا يعلم أنّ دلالات الألفاظ في اللّغة أوسع منها في الشّرع، لأنّ الاصطلاح الشّرعي استخدم اللفظ العربي وقيّده، فيأتي الواحد من هؤلاء ليأخذ دلالة اللفظ بكلّ سعته اللغويّة، ممّا يعني إدخال عناصر جديدة لم يشملها الاصطلاح الشّرعي.

<<  <  ج: ص:  >  >>