للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلفظ الحجاب مثلاً يمكن أن يشمل كل ما تحتجب به المرأة، مهما كان لونه أو صفته المهم أنّه حجاب للجسم، فيتوسّع بعض المفتين ليسوّغوا للمرأة أيّ نوع من الألبسة الّتي تستر الجسم، وهذا خطأ بلا ريب.

بل الحجاب الشّرعي هو الّذي فعله وطبّقه نساء المؤمنين عندما نزلت آية الحجاب، فهو الحجاب الّذي فيه من الشّروط ما يجعله يحقّق الحكمة من مشروعية الحجاب، وهو بُعد المرأة عن الشّبهة وإثارة الفتنة ولفت النّظر.

فإذا توسّعنا كما توسّع فقهاء التّيسير قلنا بمشروعيّة الحجاب الأحمر المزركش بالأصفر اللافت للنّظر الّذي جمّل المرأة وزاد من لفت الأنظار إليها.

أقول: إنّ هذا المنهج بملامحه البيّنة هو منهج بعيد عن السنّة، والكلام فيه من أصعب الأمور لدقّة مسائل الفقه، بخلاف قضايا العقيدة الكبرى. قال العلاّمة الشّاطبي ـ رحمه الله ـ: «جاء في بعض روايات الحديث [أي حديث الافتراق]: «أعظمها فتنةً الّذين يقيسون الأمور برأيهم، فيحلّون الحرام ويحرّمون الحلال» [أخرجه الطبراني في الكبير (١٨/ ٥٠ ـ ٥١) (ح٩٠)، والحاكم (٣/ ٥٤٧) و (٤/ ٤٣٠)، وهو منكر لا أصل له، وحديث الافتراق مشهور صحيح] فجعل أعظم تلك الفرق فتنةً على الأمّة أهل القياس، ولا كلّ قياسٍ، بل القياس على غير أصلٍ، فإنّ أهل القياس متّفقون على أنّه على غير أصلٍ لا يصحّ، وإنّما يكون على أصلٍ من كتابٍ أو سنّةٍ صحيحةٍ أو إجماعٍ معتبر، فإذا لم يكن للقياس أصلٌ ـ وهو القياس الفاسد ـ فهو الّذي لا يصحّ أن يوضع في الدّين، فإنه يؤدّي إلى مخالفة الشّرع، وأن يصير الحلال بالشّرع حراماً بذلك القياس، والحرام حلالاً، فإنّ الرّأي من حيث هو رأيٌ لا ينضبط إلى قانونٍ شرعيّ إذا لم يكن له أصلٌ شرعيّ، فإنّ العقول تستحسن ما لا يُستحسن شرعاً، وتستقبح ما لا يُستقبح شرعاً، وإذا كان كذلك صار القياس على غير أصلٍ فتنةً على النّاس.

ثم أخبر في الحديث أنّ المعلّمين لهذا القياس أضرّ على النّاس من سائر أهل الفرق، وأشدّ فتنةً، وبيانه أنّ مذاهب أهل الأهواء قد اشتهرت الأحاديث التي تردّها واستفاضت، وأهل الأهواء مقموعون في الأمر الغالب عند الخاصّة والعامّة، بخلاف الفتيا، فإنّ أدلّتها من الكتاب والسنة لا يعرفها إلاّ الأفراد، ولا يميّز ضعيفها من قويّها إلاّ الخاصّة، وقد ينتصب للفتيا والقضاء ممّن يخالفها كثيرٌ».

قلت: صدق رحمه الله، ولذلك فإنّ من أصعب الأمور اليوم أن تبيّن للعامة بل لكثير من طلاب العلم زيف دعوة بعض فقهاء الرّخص من المشهورين الآن، والسبب دقّة المآخذ عليهم ممّا لا يحسنه ولا يعيه أكثر النّاس.

ثم قال الشاطبي: «وقد جاء مثل معناه محفوظاً من حديث ابن مسعودٍ أنّه قال: «ليس عام إلاّ والّذي بعده شرٌّ منه، لا أقول: عامٌ أمطر من عامٍ، ولاعامٌ أخصب من عامٍ، ولا أميرٌ خيرٌ من أميرٍ، ولكن: ذهاب خياركم وعلمائكم، ثم يحدّث قومٌ يقيسون الأمور برأيهم، فيُهدم الإسلام ويُثلم».

وهذا الذي في حديث ابن مسعودٍ موجودٌ في الحديث الصّحيح، حيث قال عليه الصّلاة والسّلام: «ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناسٌ جهّالٌ يستفتون فيفتون برأيهم، فيضلّون ويضلّون» [متفق عليه].

وقد تقدّم في ذمّ الرأي آثارٌ مشهورةٌ عن الصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ والتابعين تبيّن فيها أنّ الأخذ بالرّأي يحلّ الحرام ويحرّم الحلال.

<<  <  ج: ص:  >  >>