ثم إنّ النّاصر [أي: الأمير] احتاج إلى شراء مجشر [حوض لا يستقى فيه لجشره أو لوسخه وقذره، المعجم الوسيط (ص١٢٤)] من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النّهر، فشكا إلى القاضي ابن بقيّ ضرورته إليه لمقابلته منزهه، وتأذيه برؤيتهم أوان تطلّعه من علاليه، فقال له ابن بقيّ: لا حيلة عندي فيه، وهو أولى أن يُحاط بحرمة الحبس، فقال له: تكلّمْ مع الفقهاء فيه وعرّفهم رغبتي، وما أجزله من أضعاف القيمة فيه، فلعلّهم أن يجدوا لي في ذلك رخصةً، فتكلّم ابن بقيّ معهم فلم يجدوا إليه سبيلاً، فغضب النّاصر عليهم وأمر الوزراء بالتّوجيه فيهم إلى القصر، وتوبيخهم، فجرت بينهم وبين بعض الوزراء مكالمةٌ، ولم يصل الناصر معهم إلى مقصوده.
وبلغ ابن لبابة هذا الخبر، فدفع إلى النّاصر بعضاً من أصحابه الفقهاء، ويقول: إنّهم حجّروا عليه واسعاً، ولو كان حاضراً لأفتاه بجواز المعاوضة، وتقلّد حقاً وناظر أصحابه فيها، فوقع الأمر بنفس الناصر، وأمر بإعادة محمّد بن لبابة إلى الشّورى على حالته الأولى، ثمّ أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة، فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم، وعرّفهم القاضي ابن بقيّ بالمسألة الّتي جمعهم من أجلها وغبطة المعاوضة.
فقال جميعهم بقولهم الأوّل من المنع من تغيير الحبس عن وجهه، وابن لبابة ساكت، فقال له القاضي: ما تقول أنت يا أبا عبد الله؟ قال: أمّا قول إمامنا مالك بن أنسٍ فالّذي قاله أصحابنا الفقهاء، وأمّا أهل العراق فإنّهم لا يجيزون الحبس أصلاً، وهم علماء أعلامٌ يقتدي بهم أكثر الأمّة، وإذا بأمير المؤمنين من الحاجة إلى هذا المجشر ما به، فما ينبغي أن يردّ عنه، وله في السّنّة فسحة، وأنا أقول بقول أهل العراق، وأتقلّد ذلك رأياً.
فقال له الفقهاء: سبحان الله! تترك قول مالكٍ الّذي أفتى به أسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنهم بوجه، وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمّة آبائه؟ فقال لهم محمّد بن يحيى: ناشدتكم الله العظيم! ألم تنزلْ بأحدٍ منكم ملمّة بلغت بكم أن أخذتم فيها بغير قول مالكٍ في خاصّة أنفسكم، وأرخصتم لأنفسكم في ذلك؟ قالوا: بلى! قال: فأمير المؤمنين أولى بذلك، فخُذوا به مأخذكم، وتعلّقوا بقول من يوافقه من العلماء فكلّهم قدوة، فسكتوا، فقال للقاضي: أنْهِ إلى أمير المؤمنين فتياي.
فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس، وبقي مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يُؤخذ له بفُتيا محمّد بن لبابة، وينفذ ذلك، ويعوّض المرضى من هذا المجشر بأملاكٍ ثمينةٍ عجيبةٍ، وكانت عظيمة القدر جداً، تزيد أضعافاً على المجشر، ثم جيء بكتابٍ من عند أمير المؤمنين منه إلى ابن لبابة بولاية خطّة الوثائق ليكون هو المتولّي لعقد هذه المعاوضة، فهنئ بالولاية، وأمضى القاضي الحكم بفتواه وأشهد عليه وانصرفوا، فلم يزل ابن لبابة يتقلّد خطة الوثائق والشّورى إلى أن مات سنة ست وثلاثين وثلاثمائة».
قال الشاطبي:«فتأمّلوا كيف اتّباع الهوى، وأولى أن ينتهي بصاحبه، فشأن مثل هذا لا يحلّ أصلاً من وجهين: ... الثاني: أنّه إن سلّمنا فلا يصحّ للحاكم أن يرجع في حكمه في أحد القولين بالمحبّة والإمارة أو قضاء الحاجة، إنّما الترجيح بالوجوه المعتبرة شرعاً، وهذا متّفقٌ عليه بين العلماء، فكلّ من اعتمد على تقليد قولٍ غير محقّق، أو رجّح بغير معنى فقد خلع الرّبقة، واستند إلى غير شرعٍ، عافانا الله من ذلك بفضله.
فهذه الطّريقة في الفتيا من جملة البدع المحدثات في دين الله تعالى، كما أنّ تحكيم العقل على الدّين مطلقاً محدثٌ». [الاعتصام (ص٤٥٠)].