للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: تأمّل ـ بارك الله فيك ـ ما في وصف الشاطبي لهذا الصّنيع باتباع الهوى، وهو صنيع ـ والله ـ بهذا الوصف حقيق، وكم في عصرنا هذا من نماذج وصور لهذا المفتي، فأصبح كثير من المتكلمين في مسائل الفقه غاية مرامه أن يحكي أقوال الفقهاء، حتى الشاذّ منها، ثم يميع قضيّة الفتوى ويدع للسائل الحرية في اختيار ما يهواه قلبه دون تنبيه إلى الكتاب والسنة وما يفيدانه في هذه المسألة محل السؤال، وهذا يفعله إمّا لجهله بالقول الحق الذي دلّ عليه النص، وإمّا لأنّه من المبتدعة الّذين لا يرفعون بالسنّة والاتّباع رأساً نسأل الله العافية.

وهو ما يعبّر عنه الآن بالتّيسير، فأصبح قضاء حوائج الناس كبارهم وصغارهم مقصداً بارزاً أمام من يريد الفتوى من فقهاء منهج (التّسليك) المسمى: بالتيسير، وفي هذا اعتراف ضمني منهم أنّ الكتاب والسنة جاءا بالعسر والمشقة على الناس، وهذا خلاف منهج أهل السنة في الفتوى؛ فالتيسير الحقيقي هو تطلّب دلالات النّصوص الشرعية، والرّخصة التي جاء بها النص الشرعي، لا التملّص من النصوص بحجة التيسير على الناس، فضلاً عن أصحاب الجاه كما فعل هذا المفتي الذي حكى عنه الشاطبي، ولو تأمّلنا ما فعله ابن لبابة مع الأمير لعرفنا أنّه يحدث الآن لكن لصالح وجهاء آخرين كالأمراء وأصحاب القنوات الفضائية والأثرياء من ملاّك الشركات، وكذلك بعض الأنظمة الحاكمة والوزراء، كل هؤلاء أصبحوا لا يعدمون فقيهاً أو جهة معينة مهمتها (تبليع) النّاس ما لا يُبلع من الأقوال الشاذة والفتاوى المخالفة للنصوص بل الإجماع أحياناً فقط؛ لأنّ شخصاً في أعماق التاريخ قال بقول يخالفه هو معذور فيه؛ لأنّه لم يبلغه نصّ أو لعله مخالف لهواه، فيكون هذا حجّة على كتاب الله وسنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- وأقوال المئات من أئمّة العلم والدين على مر العصور.

والله المستعان ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.

<<  <  ج: ص:  >  >>