للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالتاريخ يكشف لنا بصورة قاطعة مدى ارتباط الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياتهم، فقد كانوا محيطين به لا يفارقونه في حضر أو سفر ويلازمونه في المسجد وفي البستان ويلتقون به في كل يوم لا يغيب عنهم ولا يغيبون عنه، وهذا الارتباط من أقوى الأدلة العقلية والواقعية التي تدل على منزلة الصحابة في فهم الدين وعلى عمق إيمانهم بقيمه وأصوله وشرائعه وعلى صلابة تدينهم وتمسكهم به؛ لأن الله تعالى اختار لخاتم أديانه وأكملها وأوسعها أكمل الخلق في المؤهلات المستوجبة لتبليغ الدين العظيم وغرسه في قلوب الناس ومشاعرهم، فهو صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالدين وبلغة العرب وهو أفصح الناس في البيان وهو أنصح الناس للناس وأحرصهم على الهداية، وهذه الأوصاف الثلاث متوفرة فيه في غاية الكمال.

وفي شرح هذه الكمالات وغيرها يقول ابن تيمية: " معلوم للمؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم من غيره وأنصح من غيره للأمة وأفصح من غيره عبارة وبيانا، بل هو أعلم الخلق بذلك، وأنصح الخلق للأمة، وأفصحهم، فقد اجتمع في حقه كمال العلم والقدرة والإرادة. ومعلوم أن المتكلم أو الفاعل إذا كمل علمه وقدرته وإرادته كمل كلامه وفعله وإنما يدخل النقص إما من نقص علمه وإما من عجزه عن بيان علمه وإما لعدم إرادته البيان. والرسول هو الغاية في كمال العلم والغاية في كمال إرادة البلاغ المبين والغاية في قدرته على البلاغ المبين" (الفتاوى ٥/ ٣١).

وفضلا عن ذلك ما وهبه الله من الكمالات التي اتصف بها والمواهب الإلهية التي تفيض عليه جراء اتصاله بالوحي الرباني، وهذا الأحوال تستوجب على المحيطين به الاستغراق في التفاني في محبته، والتعلق به والاندماج في التأسي بما بنصائحه وتوجيهاته، وقد وصف عروة بن مسعود يوم كان مشركا حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له فقال: " والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا صلى الله عليه وسلم" (مسند الإمام أحمد ١٨٩٢٨).

وهذا التأثير يعد من الكرامات الإلهية التي اختص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم, وقد اعترف به القاضي والداني، وفي توصيفه يقول حسن البنا: " تأثير النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه لم يرى التاريخ مثله في وقت من أوقاته ولا صفحة من صفحاته، وما رأت الدنيا جماعة من الجماعات سارت على هدى نبيها واتبعت سنة قائدها كتلك الجماعة المؤمنة المخلصة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "، ويقول ول ديورانت - وهو من أصحاب الانطباعات غير الجيدة عن الإسلام ونبيه - ومع هذا يقر بالعظمة التأثيرية للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول: " إذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر قلنا إن محمدا كان م أعظم عظماء التاريخ، فلقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو وجدب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحا لم يدانه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله " (قصة الحضارة ١٣/ ٤٧).

ويسجل مستشرق آخر تأكيده على القوة التأثيرية للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقول هارث: " إن اختياري لمحمد ليكون في رأس القائمة التي تضم الأشخاص الذين كان لهم أعظم تأثير عالمي في مختلف المجالات ربما أدهش كثيرا من القراء ... ولكن في اعتقادي أن محمدا كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والسياسي (قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل ١٤٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>