للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتلك تلك القوة التأثيرية نتيجة الكمالات والمواهب الإلهية التي حلت به فإنه من المستبعد عقلا وذوقا ومنطقا ألا يستطيع أن يؤثر في من عاش معه ولازمه في حياته وأسفاره وحروبه، ولا يستطيع أن يغرس فيهم قيم الدين وأصوله والتقبل لشرائعه وينتزع من نفوسهم مبادئ الجاهلية.

فالمنسجم مع العقل السليم والمتوافق مع المنهجيات التحليلية المنضبطة أن يكون تأثيره فيهم أبلغ تأثير وتغييره فيهم أعمق تغيير.

ومن المستبعد عقلا وذوقا ومنطقا أن يكون المؤمن الصادق الذي ارتبط ارتباطا معاشيا بالنبي صلى الله عليه وسلم وسمع خطبه وتوجيهاته مباشرة وشاهد سيرته بالعيان وعاشها بالإبصار ضعيف التمسك بدينه وقيمه، ومن المستبعد في العقل السليم أن يكون من عاش مع النبي صلى الله عليه سلم وعرف طريقة حديثه وكيفية بيانه ضعيف الإدراك لحقيقة ما جاء به من الدين مع ذلك الكمال في الفصاحة والنصح والبيان، فكيف يستقيم في العقل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم في المنزلة العالية من الكمال وفي القمة المرتفعة من التأثير والبلاغة والفصاحة ثم مع ذلك لا يؤثر في من ارتبط به ولازمه وعاش معه سنوات عديدة.

فإن من عايش شخصا كاملا كالنبي صلى الله عليه وسلم لا بد أن يتأثر به غاية التأثر ويتشرب مبادئه غاية التشرب، وتفتح عليه مغاليق العلم، فإذا كانت شخصية النبي صلى الله عليه وسلم تؤثر في المستمعين لها وتحدث أثر بالغا في المطلعين عليها عن طريق القراءة، فكيف بمن عاش معه وسافر معه وأكل وشرب معه وحارب معه وصلى خلفه واستمع إلى قراءة القرآن منه مباشرة وجالسه وصادقه؟!! ألا يدل العقل السليم على أنه أولى بالتأثر من غير؟!!

وقد حلّقَ أبو الحسن الندوي بقرائه وارتفع بأذواقهم في وصف تأثير النبي صلى الله عليه وسلم في الصحابة فقال: "الرسول صلى الله عليه وسلم يغذِّي أرواحهم بالقرآن ويربي نفوسهم بالإيمان ويخضعهم أمام رب العالمين خمس مرات في اليوم عن طهارة بدن وخشوع قلب وخضوع جسم وحضور عقل، فيزدادون كل يوم سمو روح ونقاء قلب ونظافة خلق وتحرراً من سلطان الماديات ومقاومة للشهوات ونزوعاً إلى رب الأرض والسموات ... ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يربيهم تربية دقيقة عميقة. ولم يزل القرآن يسمو بنفوسهم ويذكي جمرة قلوبهم. ولم تزل مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم تزيدهم رسوخاً في الدين وعزوفاً عن الشهوات، وتفانياً في سبيل المرضاة، وحنيناً إلى الجنة، وحرصاً على العلم وفقهاً في الدين ومحاسبة للنفس. يطيعون الرسل في المنشط والمكره. وينفرون في سبيل الله خفافاً وثقالاً. قد خرجوا مع الرسول للقتال سبعاً وعشرين مرة في عشر سنين. وخرجوا بأمره لقتال العدو أكثر من مائة مرة. فهان عليهم التخلي عن الدنيا وهانت عليهم رزيئة أولادهم ونسائهم في نفوسهم. ونزلت الآيات بكثير مما لم يألفوه ولم يتعودوه. وبكل ما يشق على النفس إتيانه في المال والنفس والولد والعشيرة فنشطوا وخفوا لامتثال أمرها ..... لقد كان هذا الانقلاب الذي أحدثه صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين وبواسطتهم في المجتمع الإنساني أغرب ما في تاريخ البشر، وقد كان هذا الانقلاب غريباً في كل شيء: كان غريباً في سرعته وكان غريباً في عمقه وكان غريباً في سعته وشموله. وكان غريباً في وضوحه وقربه إلى الفهم" (ماذا خر العالم بانحطاط المسلمين ١٠٢ - ١٠٤)

وهذا كله يجعل من المستبعد عقلا وواقعا أن يوجد أحد أصدق من الصحابة في التمسك بالإسلام أو يوجد أحد أعلم من الصحابة في إدراك حقيقة دين الإسلام ومعرفة أحكامه وتفاصيله.

الدليل الثاني: الحال السلوكي:

<<  <  ج: ص:  >  >>