لعل من الأمور الملفتة في التاريخ أن مجمل تاريخ الصحابة نقل إلينا بشكل مفصل، بحيث إنا نستطيع من خلاله أن نتعرف على تفاصيل حياتهم ونقف على جزيئات أحوالهم، وهذا يسهل لنا مهمة التدليل على تفوقهم على غيرهم من الأجيال في صدق الإيمان بقيم الدين وعمق الإدراك لأحكامه ومقاصده، فالناظر في أحوال الصحابة وما كانوا عليه من العبادة والذكر والجهاد وقوة الإيمان والحب للرسول صلى الله عليه وسلم والبذل في دينه والخضوع لأوامره والاجتهاد في طاعته، والحرص على تعلم دينه يدرك بسهولة أنه من المستبعد عقلا أن يكون أولئك القوم ضعفاء في الإيمان بمبادئ دينهم ومن المستبعد عقلا أن ينقلبوا على قيمه أو يتخلوا عن أصوله وشرائعه، ومن المستبعد عقلا أن يكونوا جهالا بمقاصده وأحكامه.
وقد نبه على قيمة هذا الدليل الخطيب البغدادي، وأكد على أنه دليل قائم بنفسه حتى ولو لم ترد النصوص الشرعية بفضائل الصحابة حيث يقول:" على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطع على عدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيؤن من بعدهم أبد الآبدين، هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء"(الكفاية ٤٩).
وهذا الدليل اعتمده العقلاء والعظماء في الحكم على الناس، وجعلوه طريقا يحصلون به العلم بحالهم ويبنون عليه مواقفهم من الآخرين، وممن اعتمد عليه: هرقل -ملك الروم- فإنه لما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتابه، استدعى من كان في بلاده من العرب، وسألهم أسئلة عديدة تتعلق بسلوك النبي وأحواله، فلما أجابوه بالصدق، اعترف بنبوته وصدقه في دعوته وقال:" لوددت أني أخلص إليه ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه، وإن يكن ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين "، فقد استفاد هذا العاقل اللبيب علما جازما باطلاعه على أحوال النبي من غير أن يلقاه، ولا شك أن النبي أعلى قدرا من الصحابة ومن كل الخلق، ولكن غاية ما نريد الوصول إليه أنا نستطيع بالعقل أن نصل إلى العلم الجازم بعمق إيمان الصحابة بمبادئ دينهم وقيمه وقوة علمهم بالاعتماد على المسلك السلوكي لديهم.
ونحن إذا التزمنا بالعملية الصحيحة في الاستدلال - كما التزم بها ذلك اللبيب - نستطيع أن نقول بأنه من المستبعد في العقل أن الصحابة أكثرهم أو كلهم ارتدوا عن دينهم أو أنهم تخلوا عن قيمه، ونجزم بأنه من المستبعد في العقل أن يتراجعوا عن الفداءات التي قدموها بمجرد موت النبي صلى الله عليه وسلم أو أن يضعفوا عن التمسك بأصول الإسلام وشرائعه، ومن المستبعد عقلا أن تكون مبادئ الجاهلية هي المؤثر الأول والأخير فيهم كما صور ذلك الجابري في كتابه العقل السياسي العربي.
الدليل الثالث: التفوق في المؤهلات:
العارف بحال الصحابة والمدرك لطبيعة علاقتهم بشأة دعوة الإسلام وملابستها الحالية والزمانية سيصل إلى أن لديهم مؤهلات تجعلهم يتفوقون على غيرهم في معرفة حقيقة الإسلام ويتبوؤن مكانة عالية في ملكة الفهم والاجتهاد والغوص في أعماقه، وقد سلط ابن تيمية الأضواء على خصائص الصحابة في المؤهلات المعرفية فقال:" وللصحابة فهم في القرآن يخفى على أكثر المتأخرين كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخرين فإنهم شهدوا الرسول والتنزيل وعاينوا الرسول وعرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله مما يستدلون به على مرادهم ما لم يعرفه أكثر المتأخرين الذين لم يعرفوا ذلك"(الفتاوى ١٩/ ٢٠٠).