للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتوقف الشاطبي عند تلك المؤهلات كثيرا وأخذ يبين مستنداتها وموجبات الالتزام بها في كتاب المنهجي (الموافقات)، فقد أقام هذا الكتاب على أسس علمية عديدة منها: اعتبار فهم الصحابة لزوم الأخذ به وتقديمه على غيره في التصورات الشرعية؛ لأجل أنه سعى إلى شرح ما يختص بهم من أوصاف، وفي ذلك يقول: " وأما بيان الصحابة فإن أجمعوا على ما بينوه؛ فلا إشكال في صحته أيضًا ... وإن لم يجمعوا عليه؛ فهل يكون بيانهم حجة، أم لا؟ هذا فيه نظر وتفصيل، ولكنهم يترجح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين:

أحدهما: معرفتهم باللسان العربي؛ فإنهم عرب فصحاء، لم تتغير ألسنتهم ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم؛ فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم، فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان؛ صح اعتماده من هذه الجهة.

والثاني: مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة؛ فهم أقعد في فهم القرائن الحالية وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب" (٤/ ١٢٧).

مستلزمات عملية:

بعد الانتهاء من عرض المؤكدات الشرعية على تفوقات الصحابة وتفسير الدلائل العقلية والحالية على ذلك، فإن المنهجية العلمية الصلبة تستوجب على المتمسك بها في بناء تصوراته ومفاهيمه الدينية والتاريخية أمورا عملية عديدة، ومن تلك الأمور:

الأمر الأول: لزوم الرجوع إلى فهم الصحابة وإلى ما كانوا عليه من حالة دينية وسلوكية، فالمنهجية العملية البناءة تؤكد على المشاريع الإصلاحية الحرص على استجلاء الصورة الحقيقة التي تمثل ما كان عليه الصحابة، وتدعوا إلى السعي في جمع كل ما نقل عنهم من آثار صحيحة، وتحث على محاولة الكشف عن الأسس العلمية التي أقاموا عليها فهمهم للنصوص الشرعية، وبنوا عليها استنباطاتهم العلمية؛ لأنه يستطيع بذلك أن يقف على النموذج الكامل لتطبيق الإسلام، وبالتالي يتفوق في عمليته الإصلاحية، وهذه النتيجة صدع بها الإمام مالك منذ زمن مبكر في مقولته الشهيرة: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها "، وقبل ذلك صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن الرجوع إلى ما كان عليه الصحابة يحقق النجاة من الخطأ، وذلك حين سئل عن الفرقة الناجية فقال: " من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي "، وهذا يؤكد على أن الصحابة يمثلون النموذج الكامل في الحالة الدينية والعلمية الشرعية.

الأمر الثاني: الاحتياط الشديد في نسبة الخروقات القيمية والأصولية إلى الصحابة، فالمنهجية العملية الصلبة تستوجب على الباحثين الحذر الشديد في نسبة أي أمر ينافي الصدق الإيماني التي تمتع به الصحابة أو يناقض الصلابة الدينية عندهم أو يقدح في العمق الإدراكي لديهم، وليس المراد بهذا التوصل إلى القول بعصمة الصحابة من الوقوع في المعاصي والذنوب، فهم ليسوا معصومين، وإنما المراد نسبة الأخطاء المتعلقة بأصول الإسلام وبقيمه الكبرى الواضحة.

وكما أن المنهجيات الناضجة تطالب بالاحتياط الشديد في نسبة أقوال لا تتوافق مع أحوال بعض المفكرين ولا تتماشى مع الظروف المحيطة بهم، ولا تنسجم مع العقلية التي يفكر بها، فكذلك هو الحال فيما يتعلق بالصحابة لابد أن تراعى جميع التفوقات التي امتازوا بها عن غيرهم.

إزهاقات تفوقات الصحابة:

مع ظهور الدلائل على تفوق جنس الصحابة على غيرهم في الحالة الدينية والعملية والسلوكية، إلا أنا نشهد مناقضات عديدة لتلك التفوقات ونقف على إزهاقات ظاهرة للدلالات البينة.

ومن أول ما نشهده من ذلك: المواقف التي يمارسها الفكر الشيعي الإمامي، فإن مواقفه من الصحابة تتنافى مع الدلالات الشرعية والعقلية، وتزهق الخواص الإيمانية والسلوكية لديهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>