ولكن ذلك ليس مستغربا من الحالة الشيعة الإمامية، فإن المتابع للتاريخ يدرك بسهولة أن الفكر الشيعي يعاني من عقدة " قابلية الانخراط في الخرافة "، فهو من أكثر المذاهب تداولا للأفكار التي تتناقض مع العقل، ومن أكثر المذاهب التي يربى فيها أتباعه على التعالي عن مقتضيات العقل السليم، حتى أن بعض من مارس العملية الفلسفية منهم لم يستطع أن يتخلص من آثار " القابلية للانخراط في الخرافة "، ومن الأمثلة البارزة على ذلك: الحالة التي مارسها محمد باقر الصدر، فقد بلغ قدرا كبيرا في الفلسفة العقلية، ولكنه ما زال يعتقد أن المهدي دخل السرداب منذ سنة ٢٦٠ للهجرة، وأنه باق إلى الآن، وأنه سيخرج في الزمن القادم، وغير ذلك من المسلمات الإمامية.
ولكن الغريب حقا أن يمارس تلك الإزهاقات كبار المفكرين العرب، ووجه الغرابة في ذلك: أن الخطاب العربي نادى بأصوات مرتفعة بالعقلانية العلمية، وشن حملة شعواء على من خالف العقل، وأقام حربا ضروسا على من لم يلتزم بمقتضى الدلالات العقلية في ممارساته التحليلية وبناءاته المعرفية.
ولكننا إذا رجعنا إلى تحليلات كثير منهم لمواقف الصحابة نجد أنهم لم يلتزموا بالمنهجية الصلبة، ولم يسيروا على مقتضيات العملية التحليلية الناضجة، بل وقعوا في مزاولات عديدة لا تتماشى مع العملية النقدية الصحيحة.
وسنضرب أمثلة على ما ذكره الجابري في كتابه " العقل العربي السياسي " ليتبين لنا صدق ما ذكرنا:
المثل الأول: حين حلل الجابري الطريقة التي استعملها الصحابة في تحديد الخليفة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم يوم السقيفة جعل القبيلة هي المؤثر الأول والأخير من منطلقاتهم، حيث يقول:" المرجعية التي حكمت الكيفية التي جرت بها الأمور عند بيعة أبي بكر خليفة للنبي، أو الكيفية التي قرنت بها مجريات ذلك البيعة لم تكن العقيدة ولا الغنيمة، وإنما الكلمة الأولى والأخيرة منطلق القبيلة، لقد حاول الأنصار الانفراد بالأمر دون المهاجرين، ولكن التناقضات القبلية الداخلية مزقت وحدتهم، وأضعفت موقفهم، فصار الأمر إلى المهاجرين"(العقل السياسي١٤٠)، بل إنه صور حال الأنصار بأن لديهم إرادة باستباق المهاجرين في اتخاذ قرر تحديد الخليفة (العقل السياسي١٣٢).
وقد تكرر هذا التفخيم لدور القبيلة عند محمد أركون، فإنه زعم بأنا نجهل الكثير عن حالة السقيفة، ثم أكد بأن المؤثر الأكبر واللاعب البارز فيها هي العنصرية القبلية، وأن الصحابة أخذوا يتصارعون في تحديد الخليفة بناءً على انتماءاتهم القبلية (تاريخية الفكر الإسلامي ٢٨٢).
ونحن إذا طالعنا هذا التحليل نجد فيه من الوهلة الأولى تجريدا للصحابة من القيم الإسلامية المحورية، وانتهاكا للخصوصية التربوية للصحابة، وتعاليا على الصلابة الدينية لديهم، وخرقا للقوة التأثرية لدى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان من أبرز القيم التي جاء الإسلام بتقريرها: محاربة الجاهلية وانتزاعها من قلوب الناس، وإزالة التأثيرات القبلية في تصرفاتهم الحياتية والدينية، فمن المستبعد عقلا أن يتخلى الصحابة عن تلك القيم بمجرد موت النبي صلى الله عليه وسلم ويكون للقبيلة التأثير الأكبر في قضية من أكبر القضايا الشرعية لديهم.