للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم إن لو حاكمنا ذلك التحليل إلى المعروف من عادات العرب في المنازعات القبلية لا نجده متوافقا معها، ولا منسجما مع مجرياتها، فمن المعلوم أن الاختلافات المتعلقة بالقبيلة عند العرب من أصعب الاختلافات ولا تكاد تنتهي إلا بعد مفاوضات طويلة ومعقدة، وغالبا لا تنتهي إلا بإسالة الدماء وإزهاق الأرواح، ولكن الحوار الذي دار بين الصحابة في سقيفة بني ساعدة انتهى بشكل انسيابي وفي زمن قياسي، فهل من المقبول عقلا أن يحصل ذلك بينهم - وهم عرب أقحاح - لو كان المحرك الأول والأخير فيهم هو المحرك القبلي فقط؟! أليس هذا خارجا عما هو معروف من عادات العرب ومتنافر عما هو الغالب لديهم؟!.

والذي أوقع الجابري في مثل هذه المخالفة غفلته عن الخصوصية النوعية لجيل الصحابة ونوعية المصادر التي اعتمد عليها في معرفة ما دار بين الصحابة كما سيأتي التنبيه عليه.

المثل الثاني: توصل الجابري إلى أن عليا رضي الله عنه دفع ثمن موقفه من بيعة أبي بكر، وذكر أن:" المصادر تسكت تماما عن علي ابن أبي طالب زمن أبي بكر، وكأنه لا وجود له" (العقل السياسي١٤٣)، وهذا التحليل فضلا عن أنه مخالف للدلالات العقلية التي تؤكد على صعوبة تصور أن يقع مثل هذا الفعل من أبي بكر ومن كبار الصحابة، ولا يصح لنا أن ننسب إلى أبي بكر مثل هذا التصرف السطحي إلا بأدلة قوية، وهذا ما لم يقدمه الجابري في تحليله السابق.

ومع ذلك فهو أيضا مخالف لما هو منقول في كتب الحديث والتاريخ من سيرة علي رضي الله عنه في هذه المدة، فقد ذكر ابن كثير أن عليا ممن خرج مع أبي بكر إلى ذي القصة لما ارتد أهلها، وذكر أن أبا بكر جعل عليا أحد القادة الذين يحمون مداخل المدينة مع طلحة والزبير وعبد الله ابن مسعود (البداية والنهاية ٦/ ٣٣٤).

وجاء أن أبا بكر العصر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بليال وعلي ابن أبي طالب يمشي إلى جنبه، فمر بحسن بن علي يلعب مع غلمان، فاحتمله على رقبته وهو يقول أوه بأبي شبه النبي ليس شبيها بعلي وعلي يضحك" (المسند ٤٠, وإسناده صحيح).

ثم إن فترة خلافة أبي بكر اتسمت بالقصر وبوقوع أحداث كبيرة سيطرة على المؤرخين فلم يهتموا بنقل الأحداث الفردية، ومن يطالع تاريخ خلافة أبي بكر يجد أن كثيرا من كبار الصحابة لم يكن له ذكر كعثمان بن عفان وغيره.

وبناء على هذه الدلائل فضلا عما تم تقديمه من أدلة عقلية على نزاهة الصحاب من حدوث مثل تلك التصرفات يتبين أن الجابري لم يوفق في تحليله ولم يسلك الطريقة الصحيحة في تبين الأمور واكتشافها على حقيقتها المطابقة للتاريخ.

المثل الثالث: صور الجابري للقاري العربي حالة الشورى التي كانت بعد موت عمر رضي الله عنه على أنه ثمة صراعا محتدما بين علي وعثمان، وأنهما استصحبوا الصراع الجاهلي بين قبائلهم، حيث يقول: " وقائع الشورى تؤكد أن الصراع كان بالفعل شديدا بين علي وأنصاره وعثمان وأهله، أي بين بني هاشم وبني أمية، غنه الصراع نفسه الذي كان قائما بينهما في الجاهلية، الذي غطى عنه الإسلام لمدة من الزمن ليبعث بأقوى مما كان عليه" (العقل السياسي ١٤٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>