للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وابتداءً نحن لا ننكر أن ثمة خلافا في وجهات النظر حصل بين الصحابة رضي الله عنهم في تحديد الخليفة بعد عمر، وهو من جنس الخلاف الذي حصل بينهم في خلافة أبي بكر، ولكن التعاطي الذي مارسه الجابري مع قضية الشورى، يتعارض على طول الخط مع الأدلة العقلية والحالية التي تؤكد على أن حدوث هذه الصراعات القبلية مستبعدة في العقل، ولا يكاد المدرك لتلك الأدلة أن يتقبل التحليل الذي مارسه الجابري عن الصحابة في الشورى، ويصعب عليه جدا أن يأخذ به، فعلي وعثمان من كبار الصحابة الذين ارتبطوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ارتباطا روحيا ومعاشيا كبيرا، فمن المستبعد عقلا أن يتخلوا عن القيم الذي غرست في أنفسهم لأجل الخلافة، ومن المستبعد عقلا أن يرجعوا إلى الحالية الجاهلية التي حاربها الإسلام بشكل مكثف، وهذا الاستبعاد لا يصح أن ننتقل عنه إلا بأدلة قوية جدا، وهذا ما لم يقدمه الجابري في تحليله السابق.

ثم إن السؤال يعود هنا مرة أخرى، هل من المعروف من عادات العرب أن تنتهي المنازعات القبلية بينهم بمثل الصورة التي كانت بين الصحابة، فقد انتهت مهمة الشورى في ثلاثة أيام فقط، وعين عثمان ابن عفان خليفة للمسلمين، ولم يعترض علي ولا أحد من بني هاشم، ولم يقيموا كتلا سياسية معارضة، بل يذكر التاريخ أن عليا كان على وفاق تام مع عثمان، وكذلك هو الحال في كل بني هاشم.

وقد أكدت روايات عديدة على أن الرأي العام في آخر أيام عمر بن الخطاب كان متوجها إلى بيعة عثمان بن عفان، فقد سأل عمر حذيفة بن اليمان في الحج فقال: من ترى قومك مؤمرين من بعدي؟ قال حذيفة: رأيت الناس قد أسندوا أمرهم إلى عثمان بن عفان" (تاريخ المدينة ابن شبة٣/ ٣٩٢، بسند صحيح)،وقال خارجة بن مضرب: "حججتُ مع عمر فلم يكونوا يشكُون أن الخلافة من بعده لعثمان" (المصنف, ابن أبي شيبة٣٨٢٣٠, بسند صحيح).

ثم ما صوره الجابري من خلافات سياسية بين بني هاشم وبين أمية في عهد كبار الصحابة غير صحيح، فإنه لم يكن بينهم شيئا من مخلفات الجاهلية، وكان كثيرا من ولاة النبي صلى الله عليه وسلم من بني أمية، وقد تزوج منهم وهم تزوجوا من بني هاشم، وهذا كله يدل على أن الإسلام اقتلع مخلفات الجاهلية من نفوسهم

وهذا الدلائل فضلا عما سبق تقديمه من الأدلة العقلية والحالية كلها تدل على خلاف ما توصل إليه الجابري حين صور أن الصحابة تخلوا عن قيم الإسلام ورجعوا إلى مبادئ الجاهلية بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.

المثل الرابع: أن الجابري عول كثيرا على المصادر المشكوك فيها في تحليل الحوادث الواقعة في جيل الصحابة، فقد اعتمد كثيرا على كتاب " الإمامة والسياسة", وتكرر ذكره في كتابه "العقل السياسي" أكثر من خمس وثلاثين مرة، واعتمد عليه وحده في أكثر من عشرين مرة، وكان أحد ما اعتمد عليه في نقل تفاصيل ما حدث بين الصحابة يوم السقفية.

وهذا الاعتماد من الجابري مخالف للمنهجية العملية الصلبة التي تستوجبها حالة جيل الصحابة، فهذا الجيل قامت الأدلة العقلية والحالية على تفوقه الإيماني والعلمي وعلى صلابته في التمسك بالقيم الإسلامية، وهذه الحالة تحتم الاحتياط الشديد في نسبة أي موقف يخالف ذلك، فهل من الاحتياط الشديد أن نعتمد على كتاب مشكوك في نسبته، وهل من الالتزام بالمنهجية العملية التحليلية أن نبادر إلى إزهاق تفوقات الصحابة بالاعتماد على مثل كتاب الإمامة والسياسة، المنسوب إلى ابن قتيبة.

والغريب حقا أن الجابري نفسه متوجس من صحة نسبة ذلك الكتاب ابن قتيبة، فإنه قال عنه: " لعل أقدم كتاب وصلنا في هذا الموضوع -الإمامة- هو كتاب الإمامة والسياسة، المنسوب إلى المؤرخ الكبير والمؤلف السني الواسع الإطلاع أبي محمد عبدالله ابن قتيبة الدينوري، وعلى الرغم من الشكوك التي تحوم حول صحة نسبة هذا الكتاب إلى ابن قتيبة، وعلى الرغم من الهنات والأخطاء التي سجلها عليه الباحثون المختصون، فإنه يبقى مع ذلك أول محاولة سنية في الكلام في الإمامة " (تكوين العقل العربي١٠٨).

فهل يجوز في المنهجيات العلمية الصارمة التي تراعي الأحوال المحيطة بالقضية ولا تغفل عن الاحتياط الشديدة التي توجبها الأدلة المحيطة بها أن نعتمد على مثل كتاب الإمامة والسياسة؟!

<<  <  ج: ص:  >  >>