وكانت الولايات المتحدة في حالة الخيلاء بقوَّتها العسكرية، فغزت أفغانستان والعراق واحتلتهما، وصارت تهدد سوريا وليبيا والسودان بطبيعة الحال؛ حتى إن أطرافاً إقليمية نقلت للسودان وقائع محددة عن حشدٍ لقواتٍ على حدوده واستعدادها للعدوان عليه. وفي ذلك لم يكن الموقف الأوروبي ملحَقاً بالموقف الأمريكي فقط، بل أظهر استعداداً لفعل عدوان «منفرد» ضد السودان. وفي تلك المرحلة لم يكن للأطراف الدولية الأخرى عوامل قوة وتأثير في مواجهة القرارات الأمريكية.
وفي الوضع الإقليمي لم يكن التأثير الأمريكي قوياً فقط في ضغطه على قرارات دول الإقليم، بل كان الوضع الإقليمي نفسه في حالة تعبئة ضد الحكم في السودان؛ إذ كانت العلاقات السودانية مع مختلف الدول في وضع كان الأسوأ فعلياً.
أما الأوضاع الداخلية السودانية، فكانت في وضع الخطر، بسبب انتقالية الحكم في السودان بعد انشقاق الحركة الإسلامية الحاكمة وخروج الترابي من الحكم وتشكيله حزب المؤتمر الشعبي المعارض لحزب المؤتمر الوطني الذي مثَّل الحكم في الحركة السياسية. وكذا لأن أطراف المعادلة السياسية في مركز الحكم (أو الأحزاب الشمالية حسب وصف كثير من المحللين) كانت في بداية العودة لمباشرة حقوقها السياسية بعد مرحلة كانت قد تحالفت فيها مع حركة التمرد الانفصالية في الجنوب. وعلى الصعيد الاقتصادي والتنموي كان السودان في بداية الخروج من حالة الارتباك الاقتصادي التي كان يعيشها بفعل الحصار الدولي عليه، إلى حالة التنمية، استناداً إلى عائدات البترول.
في ظل تلك المعطيات، قَبِل الحكم في السودان التوقيع على اتفاقية نيفاشا، وَفْقَ آمالٍ تبددت جميعها بفعل استمرار الضغط الأمريكي والغربي، وعمق الفكرة الانفصالية داخل النخب الجنوبية، وحالة الاضطراب في داخل مركز الدولة.
رابعاً: مرت مرحلة إنفاذ اتفاقية نيفاشا بحالة صراع عميقة، كان الوصف الأدق لها: أن الغرب صار يصارع الحكم داخل السودان باستخدام الشريك الجنوبي في الحكم، مع تكثيف عوامل الضغط من الخارج. وتمثلت عوامل الضغط والإرباك من الخارج باستخدام وسائل القوة الناعمة من خلال الإبقاء على العقوبات وفتح ملف دارفور في مجلس الأمن الدولي وفتح معركة ضد الرئيس البشير، أو ضد موقع الرئاسة المهيمن في النظام السياسي السوداني؛ إذ الرئيس هو رئيس الحزب الحاكم ورئيس الوزراء والقائد الأعلى للقوات المسلحه، وهو رمز الوطن السوداني، فإذا جُرِّم أو أطيح به، تحققت خطوة في تفكيك هذا البلد.
وفي الضغط من الداخل جرى تعظيم قوة حركات التمرد في دارفور وتضخيمها، والتدخل في لعبة الأطراف الداخلية لحشدها في مواجهة الحكم. وتحويل معركة المحكمة الجنائية الدولية إلى معركة داخلية في السودان. وكان الأمر الأشد بروزاً هو التحول بالعلاقات السياسية مع السلطات الجنوبية إلى طابع العلاقات بين الدول، والتشديد على الاستعداد للاعتراف الدولي بدولة الجنوب فور انفصالها. وكان المشهد الختامي في تلك المرحلة من الصراع هو مشهد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية؛ حيث مارست خلاله الولايات المتحدة والغرب أكثف الضغوط على الحكم في السودان، وإن كان الحرص بادياً على اتمام الانتخابات لأهداف عديدة أهمها: إنجاز الخطوة الأخيرة لما قبل استفتاء الانفصال، وتثبيت تمثيل الحركة الانفصالية لأبناء الجنوب.