خامساً: لقد تغير الوضع الآن لمصلحة السودان، إذا قارناه بما كان عليه وقت توقيع اتفاقية نيفاشا؛ فالولايات المتحدة والغرب لم تعد لهم درجة الهيمنة ذاتها على القرار الدولي - على الأقل - بسبب الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت الاقتصاد الغربي، كما أن الولايات المتحدة قد تعمقت حالة تدهورِ أوضاعها السياسية والعسكرية بسبب تورطها في حربَي أفغانستان والعراق، وفي عشرات الأزمات المتفاعلة في المنطقة والعالم، ومعظمها صراعات تهدد باندلاع حروب. كما أن دولاً أخرى ظهرت بتأثيرها على ساحة القرار الدولي، وهو ما يضعف القدرة الأمريكية والغربية والصهيونية عن حالة التصرف الانفرادي السابقة.
أما في الوضع الإقليمي، فقد تغيرت أوضاع الحكم في السودان ولم يعد على حالة الحصار السابقة؛ فإريتريا تغيرت مواقفها من السودان وانقلبت من عداءٍ للحكم في السودان إلى موقف الداعم، وإثيوبيا في حالة اشتباك في الصومال وفي الداخل ومع إريتريا، وكذا أوغندا باتت تشعر بتهديد بعد التفجيرات في داخلها، وتشاد صارت حليفاً للسودان بفعل تبادل طرد الحركات المتمردة من كِلا البلدين وكان كلاهما مصدر تعزيز لحركات التمرد ضد الآخر. والعلاقات المصرية مختلفة عن أوضاع ما بعد محاولة اغتيال الرئيس مبارك في العاصمة الإثيوبية (أديس أبابا).
وأما على الصعيد الداخلي في السودان فقد تغيرت الأوضاع الاقتصادية خلال السنوات الخمس وتحسنت أوضاع تسليح الجيش السوداني بعد دخول السودان مجال إنتاج الأسلحه. والأوضاع في دارفور تغيرت على الأرض فعلياً لمصلحة الحكم في السودان، بسبب قطع الدعم التشادي عن المتمردين وطردهم من الأراضي التشادية، ولإجراء انتخابات تشريعية عينت ممثلين لأهالي دارفور في مؤسسات الحكومة، وهو ما نزع الشرعية عن حركات التمرد، وبسبب توقيع بعض الاتفاقيات مع بعض الحركات أيضاً، وهو ما أدى إلى عزل الأخريات وأضعف نفوذها ودورها. والأهم من ذلك أن الوضع الشعبي صار رافضاً بشكل كبير لقضية التقسيم، وتفكيك السودان، ويشعر بالخطر الجدي على مستقبل السودان.
لقد تغير كثير من المعطيات التي فرضت التوقيع على اتفاقية نيفاشا، وإن كان طرف الحركة الشعبية الانفصالية قد حصل بالمقابل على دعم تسليحي بفعل موارد النفط، كما حققت الانتخابات لها شرعية في الحكم وتمثيلَ مواطني الجنوب، إلا أن الأوضاع في الجنوب شهدت تنامياً في حالات الصراع القبلي والسياسي ضد هذه الحركة، وصلت حدَّ الأعمال العسكرية على نحو مؤثر.
سادساً: إذا أقر الحكم والقوى الرئيسة التي تمثل عصب المجتمع وتشكِّل العقل الجمعي للقرار الإستراتيجي في مواجهة التحدي كما تشي بعض مؤشرات الحركة في الآونة الأخيرة، فإن الأمر يتطلب عملاً عاجلاً، لتحقيق أوسع حالة إجماع داخلي ممكنة ضد انفصال الجنوب، باعتباره خطراً داهماً على السودان كله، على أن يشمل التحرك قوى جنوبية وشمالية، تحت شعارات إنقاذ السودان ومنع الجنوب من الانزلاق إلى فتنة تدمِّره وترتكب فيها المذابح.
ولذلك يبدو أنه من المهم، أن يجري إطلاق حركات شعبية خارج الأطر التقليدية، تتحرك لبلورة مواقف شعبية واضحة رافضة للانفصال، مع بقاء الحكم (إعلامياً وسياسياً) في موقع الضابط لإيقاع وحدة البلاد إعمالاً لمهامه الدستورية. كما يتطلب الأمر تحركاً مكثفاً لتعبئة المواقف الإقليمية وحشدها ضد الحركة الانفصالية، وإخراج المواقف الرسمية من حالة «الكلام المكتوم» إلى حالة الرفض السياسي والإعلامي المباشر. ولتحقيق حالة من توفير الجهد والقوة وتوجيه القدر الأعظم منها للضغط على الطرف الأخطر في المرحلة الحالية، ينبغي حسم معركة دارفور بأسرع ما يمكن عبر صياغات تضع خطر انفصال الجنوب أولوية. وكذا ينبغي وضع خطة إعلامية مكثفة، لإنهاء الفجوة المعرفية لدى الرأي العام العربي والإسلامي والدولي حول قضايا دارفور والجنوب، والتحول نحو هجوم إعلامي مضاد لتحركات الإعلام الغربي على الأقل في الساحة العربية.
والقصد أن ثمة ضرورة لخطة تحرُّك عاجلٍ، ينتقل بالسودان من الموقف الدفاعي الذي ساد لمرحلة طويلة مضت إلى الموقف الهجومي؛ فلم يعد هناك وقت.