للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سادساً: الإكثار دوماً من ذكر الخلاف والرخص: إن ذكر الرخصة للناس وتخفيفَ المشقَّة عليهم واجب شرعي؛ فإن الدين دين يُسْر، لكن أن يكون هذا بكثرة، ويكون المراد من ذكر الخلاف دوماً هو نقض الشريعة، وتخيير العامة، وإثارة شكوكِ من لا خَلاقَ له من دينٍ أو علمٍ بأن الشريعة متناقضة؛ فهذا جناية على الدين، ومهما كان مراد صاحب الإرجاء الفكري في هذا التيسير على الناس، فقد أخطأت استُه الحفرة بهذا، حين جنح للإرجاء دون التيسير، ودعا الناس للزندقة بتخييرهم بين أمور الدين، التي يصير بها المرء أخيراً ليس على دين الإسلام؛ فإن من له حظ من علم يعلم أنه لا يحق لمسلم التخيُّر بين أقوال أهل العلم لهوى في نفسه، بل عليه التقليد إن كان جاهلاً، واتباعُ الدليل إن كان عالماً.

سابعاً: غياب الفطنة، ومحاولةُ تأصيل الأفكار الهدامة شرعاً: إن من لازِم الخنوعِ والمسكنةِ الفكرية، وعدمِ الاعتزاز بالشرع الإسلامي في جميع مناحي الحياة، أن يصبح هذا المصاب بالإرجاء الفكري، مسوِّغاً لمشاريع التيارات المنحرفة، مسبغاً عليها مظلة شرعية، خادعاً بها الراعي والرعية؛ فيسألونه (أو ربما تبرع هو محتسباً) لبيان حكم عمل المرأة - مثلاً - وأنه كشرب العسل، مع أن أهل الأهواء لا يريدون عمل المرأة لذاته، بل لما وراءه من إخراج المرأة المسلمة، وإفسادها؛ وهل جادل أحد من أهل العلم في عملها مع الضوابط حتى يحتسبَ هذا المصابُ بالإرجاء الفكري لبيان الحكم؟ ولنا في ابن عباس - رضي الله عنهما - قدوة حسنة حين سأله من في عينيه شرر عن توبة القاتل، فقال له: لا تُقبَل، وسأله من في سيفه دم عنها، فقال: تُقبَل. فسأله من حوله عن هذا، فقال: علمت أن ذاك إن قلت له: يقبلها الله، ذهب فسفك دماً حراماً، وأن الآخر أتاني نادماً فلم أقنِّطه.

ويقول الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - في هذا الباب: «لا يزال كثير من الناس يذكرون ذلك الجدال الغريب الذي ثار في الصحف بشأن الخلاف في جواز ولاية المرأة القضاء. والذي أثار هذا الجدال هو وزارة العدل؛ إذ تقدَّم إليها بعض (البنات) اللاَّئي أُعطِينَ شهادة الحقوق، ورأين أنهن بذلك صرن أهلاً لأن يكنََّ في مناصب النيابة، تمهيداً لوصولهن إلى ولاية القضاء. فرأت الوزارة أن لا تستبد بالفصل في هذه الطلبات وحدَها، دون أن تستفتي العلماء الرسميين.

وذهب العلماء الرسميون يتبارَوْن في الإفتاء، ويحكون في ذلك أقوال الفقهاء؛ فمِنْ ذاكرٍ مذهب أبي حنيفة في إجازة ولايتها في الأموال فقط، ومِن ذاكرٍ المذهب المنسوب لابن جرير الطبري في إجازة ولايتها القضاء بإطلاق، ومِن ذاكرٍ المذهب الحق الذي لا يُجوِّز ولايتها القضاء قط، وأن قضاءها باطلٌ مطلقاً، في الأموال وغير الأموال.

سألت وزارةُ العدل العلماءَ فأجابوا. ولستُ أدري لِمَ أجابوا؟ وكيف رضوا أن يجيبوا في مسألة فرعية، مبنيَّة على أصلين خطيرين من أصول الإسلام، هدمهما أهل هذا العصر، أو كادوا؟ ولو كنتُ ممن يُسأل في مثل هذا، لأوضحت الأصول، ثم بنيتُ عليها الجواب عن الفرع أو الفروع؛ فإن ولاية المرأة القضاء في بلدنا هذا، في عصرنا هذا، يجب أن يسبقها بيان حكم الله في أمرين بُنيتْ عليهما بداهةً:

<<  <  ج: ص:  >  >>