وراح الإصلاحيون الثائرون يراهنون على جمهور الناس بأنهم فقدوا الثقة في علماء الإفتاء الرسميين!. ولستُ أدري سرّ هذه المراهنة، ونحن نشاهد برامج الإفتاء في الإذاعة والتلفاز والمواقع الإلكترونية يتقاطر عليها الناسُ زُرافاتٍ ووِحْداناً من شتى بقاع الدنيا بالاستفتاءات، وليس ثمّة من المفتين - في الأعم الأغلب - سوى المحافظين على دينهم الراسخين الثابتين في خِضمّ الانقلاب الحاصل.
وربما تحجج الثائرون الناعون على العلماء باستقطاب الفتاوى الشاذةِ المسْتَغرَبةِ الجماهيرَ المسكينةَ المنْخَدِعةَ عبر السنين بالفتاوى السائدة!!
فوَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ! ما جرى هذا الاستقطابُ - إن سُلِّمَ زَعْمُه - إلا لتلميعِ الإعلامِ الرؤوسَ الجُهَّالَ ذوي الأقوال الجاهلة الموافقة للأهواء، مصداقًا لحديث المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: «إنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» متفق عليه.
إن ثوار الإصلاح يتخيلون أوهامًا، ويبنون عليها كلامًا. ويَنْسِجون تُهمًا ضدَّ علماءِ الفتوى المعروفين، فيصدّقونها، ويَقْسِرون الناس على تصديقها قسْرًا، وما هي إلا هُراءٌ جِزَافٌ.
تخيلوا إصلاحيًّا شرعيًّا يُلصق تهمةً - لا أساس لها من الصحة - بالمفتين من العلماء أنهم يتبعون سياسة كتمان الأقوال الفقهية المعتبرة، تمَّ الكشف عنها بوسيلة لوحة مفاتيح الكمبيوتر، وبالنشر الصحفي للآراء الغريبة، والفتاوى الضالة، والأقوال المنحرفة.
والأغرب من ذلك - وهذا من غرائب المحاكمات الإصلاحية في زمن الديمقراطيات - الإلحاح بمطالبة العلماء بتصحيح مسيرتهم الإفتائية بالتوبة النصوح وفق شروطها الأربعة: الإقلاع عما هم فيه من التشنيع على الأقوال المعتبرة، والندم على ما بدر منهم من فتاوى لم يحكوا فيها خلافا، والعزم على ترك العودة إلى طَيِّ الخلاف وكتمانه مستقبلا، والاعتذار الجميل لكلِّ مفتٍ إصلاحيٍّ أُسِيء إليه يَتَّبِع سياسةَ بسط الخلاف الفقهي للمستفتين العوام.
أرأيتم حجم الشَّطَح، وعمق الهُوَّة، وفداحة الأوهام التي تُعَشْعِشُ في أفهام الثوار المصلحين الجدد.
وبميسورك الكشفُ عن فِرْيَةِ هذا الزعم الإصلاحي في ترميم الفتاوى بطرح هذا التساؤل: ما الذي طرأ على مشهد الفتاوى في غضون السنوات الأخيرة؟!
إننا لم نسمع أو نقرأ أقوالا وجيهة أو خلافا معتبرا أو آراءً لها حظُّها من النظر، وما دامت كذلك، فلا ضير من إغفالها، من بعد ما تبيَّن أنها أطروحاتٌ شاطَّة، وآراءٌ شاطحة، وفتاوى شاذة.
إن أدعياء الإصلاح مطالبون بحشدِ طائفةٍ من الأمثلة - ولا يكفي المثالُ ولا الاثنان ولا الثلاثة - التي باستقرائها وتتبعها يظهر المخبأ الذي كان يستبطنه العلماء حينًا من الدهر، فانكشف بضغطة زر.
وإلا فَلْيَصدقْ فيهم قولُ الشاعر:
والدعاوى ما لم يقيموا عليها ... بيناتٍ أبناؤها أدعياء
وحينئذٍ فليكشفوا هم مُغَطَّاهم، وأسرارَ ثوراتهم، وارتدائِهم سرابيل الإصلاح التي لن تقيهم من أوهامهم الفكرية، وهي أحوج ما تكون إلى الإصلاح.
وأخيرًا: لا يمكن القول بعصمة العلماء، ولا بقداسة اجتهاداتهم، ولَيْسَتْ مؤسساتُ الفتوى خاليةً تماما من الملاحظات. ولكن في نفس الأمر ليس من المسلك الرشيد انتهاجُ أسلوب الثوار الإصلاحيين، الذي ينعى على علماء الفتوى المشهودِ لهم من الخاصّ والعامّ، مع التشْكيك في مصداقيتهم، والطعن فيهم.
وإذا أشفق المصلحون المزعومون من سقوط الرموز العلمية لدى الناس، فليخشوا أيضًا على أنفسهم، فهم أول من سيحيق بهم السقوط، ولن يسلموا من نقاش الإصلاحيين الشرعيين الحقيقيين لهم، فضلاً عن هجمات الناس عليهم، لماذا؟
لأن الله تعالى يقول: ?إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ?.
وأعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر، واسأل الله الهداية والثبات للجميع إلى سواء السبيل.