للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذه الآراء التي انفرد بها بعض أهل العلم، جعلت مدوني أصول الفقه يختلفون "نظريًا" إزاء العلاقة بينها وبين الإجماع، فبعض العلماء نظر إليها أنها مجرد آراء لا تؤثر في انعقاد الإجماع، كما فعل ابن جرير الطبري، وابن المنذر، والنووي وغيرهم، وبعضهم نظر إليها على أنها قادحة في انعقاد الإجماع، لكن معالم الخلاف بين الفريقين تكاد تتضح حقيقتها بتصور وضع "الاتصال بين البشر" في ذلك الوقت.

فمن قال بأن مخالفة الواحد أو الاثنين تضر بانعقاد الإجماع، تحدث عن انعقاد إجماع في وقت معين، كأن تبحث مسألة وجوب قراءة الفاتحة على المصلي أيًا كان إمامًا أو مأمومًا في عام ٣٠٠ هـ، فيرى الجميع أنها واجبة، إلا أن ابن جرير الطبري يخالف في ذلك فيرى أن المصلي لو قرأ من القرآن أحرفًا تساوي أحرف سورة الفاتحة صح ذلك له، فلا يتصور أحد عندئذ أن يُشنَّع على ابن جرير الطبري صاحب العلم الذي تحدثت الركبان بجلالته، ولا يجرؤ أحد أن يقول في ذلك الوقت "أجمعت الأمة على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة"، فأين هم من ابن جرير؟ لكن السنون تمضي، وهاهم تلامذة ابن جرير تهجر قول شيخها، ثم تتابع الأمة قرنا بعد قرنا على هجرانه، فعندئذ سيتضح لدى الرائي أن ابن جرير قد انفرد بهذا القول، وأن الأمة قد أجمعت على خلافه، ولن يتعذر على بعض العلماء أن يتصور أن الإجماع ينعقد حتى مع مخالفة واحد أو اثنين.

هذا ما نقوله تنظيرًا، لكنني حاولت ـ وما زلت أحاول ـ استقراء المسائل التي انفرد فيها بعض العلماء، وموقف الفقه الإسلامي منها، ووجدت أن ثمة مئات من الأقوال تروى عن عدد من التابعين، وأتباعهم، وجيل الأئمة الأربعة، لم تتبن الأمة شيئا منها، وإنما حفظت ودونت في الكتب الفقه ليس إلا، وبقيت في هذا الحيز، دون أن تتجاوزه لتصبح مذهبا يعتنقه عدد من علماء المسلمين في أي مصر من الأمصار، بل إن تدوينها يزيد من قناعتنا بصلابة مورثنا الفقهي الإسلامي، فإنه لم يخف علينا شيئا، كما أن تتابع إعراض الأمة عن قول انفرد به واحد أو اثنين يؤكد شذوذه، فقد علمت به الأمة، ومع ذلك فما عمل به منها أحد سوى هذا، أو هذين.

ثم إننا إذا تأملنا تحذير العلماء قاطبة من الأخذ برخص العلماء، كقول سليمان التيمي: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله، قال ابن عبد البر: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً. اهـ.

وأنهم أطلقوا الرخص على ما اجتمع فيه أمران:

أولها: انفراد واحد أو اثنين من العلماء به.

ثانيهما: أن هذا الأمر توسع في الإباحة، أو ترخيص في أمر حرّمه الجماهير.

إذا تأملنا هذا التحذير من هذا الذي أسموه رخصًا لوجدناه يؤيد هذا الاتجاه؛ أي أن مخالفة الواحد والاثنين من العلماء لا تضر الإجماع، ولا يجوز العمل بذلك الانفراد، خاصة وإن كان متعلقا بجانب التيسير ـ في مقابل جانب التشديد ـ.

وقد تتابع العلماء على عبارة مفادها (أجمع أهل العلم إلا من شذ)، وقد أكثر من استخدامها ابن المنذر، ورُمي بالتساهل في نقل الإجماع وبعدم اعتبار مخالفة الواحد والاثنين مناقضة للإجماع، إلا أن كثيرًا من العلماء تناقلوا بعض عباراته مستشهدين بها، وبعضهم قرر عبارات مثلها دون الرجوع إليه، ولولا أن إيراد الأمثلة يصرف ذهن القارئ لها لأوردت عددًا منها، ويمكن الاستعانة بالاسطوانات المدمجة لاستقراء جملة منها، وإلا فكثير منها معلوم لدى طلبة العلم.

ومثل هذا ما انفرد به بعض الصحابة ولم يتابعوا عليه، بل تتابع العمل على خلاف ما انفردوا به، مثل عمل ابن عمر وأبي هريرة في إسباغ الوضوء، ورأي ابن مسعود في ترتيب المصحف وبعض سور القرآن، وقد تأدب العلماء فلم يصموا هذه الآراء بالشذوذ، ولكن أحدًا من العلماء لم يجز متابعتهم عليها.

<<  <  ج: ص:  >  >>