وهنا يبرز السؤال: كيف يقال أجمع العلماء إلا من شذ، أليست مخالفة الواحد أو الاثنين تقوض ـ على مذهب الجمهور ـ انعقاد الإجماع؟ ولا يقف جوابٌ على هذا الإشكال إلا أن نقول إن الأصوليين الذين ذهبوا إلى أن الإجماع لا ينعقد بمخالفة واحد أو اثنين؛ قد ذهبوا لذلك تنظيرًا، أما تطبيقًا فإن الجميع اتفق على أن ثمة شيئًا اسمه قول شاذ، وأنه لا يجوز العمل به، وأن ضابطه أنه ما انفرد به واحد أو اثنين (بل ربما ثلاثة)، وأنه يتعين قبول القول الآخر (أو الأقوال الأخرى)؛ يتعين ذلك سواء سمينا ذلك إجماعًا أم لم نسمه إجماعًا. فحقيقته أنه أخذ حكم الإجماع وإن لم يسمه بعض العلماء إجماعًا!
وخلاصة الأمر، أن القول الشاذ الذي لا يجوز الأخذ به ـ كما هو واضح من اسمه ـ أنه القول الذي ينفرد به واحد أو اثنان (بل ربما ثلاثة من العلماء)، وهذا القول يكون قولا لم تتبناه أحد المذاهب الفقهية الأربعة، أو لم يحك قولاً فيها.
وهنا لا بد لنا من التأكيد على أنه ثمة من تبنى بعض هذه الآراء من غير أهل الأهواء ألئك، إذ قد تبين لهم ما ظنوه دليلاً، إلا أننا لا بد أن نملك قدرًا من الشجاعة لنقول بأنهم قد أخطأوا مع ظننا بأنهم مخلصون، ولا بد لنا من شجاعة مماثلة كذلك لنقرّ بأن بعض من أغلظ في الرد عليهم من أهل المذاهب والتقليد ما حملهم على ذلك إلا غيرتهم على الإسلام وخشيتهم من ظهور مدرسة اكتشاف الإسلام هذه بحجة العمل بالدليل ونبذ التقليد.
لم لا نعمل بالقول الشاذ:
الجواب له أكثر من شق؛ أما أولها، فإن القول الشاذ مخالف إما للإجماع، أو لحكم الإجماع، وقد تقدم ذلك.
أما الشق الثاني، فإن العمل بالقول الشاذ يقتضي ترجيحه على قول أطبقت عليه الأمة جيلاً بعد جيل، خلا أفراد قلائل منهم، وهذا يتضمن أو يستلزم القول بخطأ الأمة، أو القول بتتابع علمائها جيلاً بعد جيل على الضلال، وترجيح الخطأ دون الصواب، وهذا محال عقلا وشرعًا، بل ويلزم منه أن الحق قد خلت الأرض منه مددًا من الزمن، وأن شيئا من دين الله لم يعمل به قرونًا من الزمن في أرض الله بعد بعثة رسول الله، وهذا مخالف لبدهيات دين الله الذي تكفل بحفظه!
ولا يقولن قائل إن الحقّ مع الدليل ولو قل من أخذ به، فإننا لا نتحدث عن قلة فيما يقابل الكثرة، ولكننا نتحدث عن شواذ مقابل جماهير عددها غالب ليس في طبقة واحدة ولا جيل واحد، ولكننا نتحدث عن جماهير العلماء جيلاً بعد جيل، ويبعد أن تتابع هذه الجماهير بأعدادها الغالبة على عدم الأخذ بالدليل الذي استند إليه الشاذ من الأقوال، بل إن الأقرب أن يقال بأن الجماهير الغفيرة من العلماء جيلاً بعد جيل تركت الأخذ بهذا الدليل إما لضعف فيه لم يتبين للمخالف، أو لعدم دلالة معناه على المقصود، أو لوجود معارض له قد خفي على المخالف أيضا.
وعلى هذا، فإن الثورة المعلوماتية، وإن أسهمت في إظهار المخبأ فلن تسهم في تغيير ديننا، ولن نصبح كأهل البدع والأهواء، كلما ظهر لهم من هو ألحن مِن سابقه تبعوه، فلم يبق لهم دين، ولن تساهم الاسطوانات المدمجة في اكتشاف معالم ديننا، أو في صناعة دين جديد لنا، والله حافظ دينه كله من قبل هذه التقنية، وسيحفظه بعدها، ودخول الجنة والنجاة من نار جهنم ليستا معلقة بأقوال في ديننا لم تكشفها إلا التقنية الحديثة.
وأما الشق الثالث: فهو ما تقدمت الإشارة إليه أن العمل بالقول الشاذ، مقارن للعمل برخص العلماء مجتمعة، وهو سبب للمروق من الدين، وطريق سهل إلى الجحيم، والله سيحاسبنا كما أراد، لا كما أردنا، وحسابه عسير، ونار جهنم يدخلها مع الكفار طوائف لا تحصى من المسلمين، لا يخلدون فيها، لكن يوما عند ربك كألف سنة مما يعدون، وصغائر الذنوب ليست حلالا ولا مباحة، وربما اجتمعت على المرء فأهلكته، ولذا حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم، هذه أسس "فكرية، عقدية، إيمانية، وعظية" أهملها بعضنا بحجة إصلاح حال الأمة، فأخشى أن لا تصلح الأمة في الدنيا، وأهم من ذلك وأكثر خطرًا أن يدخل كثير من أهلها نار جنهم، نسأل الله السلامة في الدنيا والآخرة.
بقي لدينا أمور لا يتسع لها هذا المقال، بحثت في الكتاب الأصل، أسأل الله أن ييسر إخراجه عما قريب:
الأول: لمَ لا نقول بأن القول الشاذ هو ما خالف الدليل؟
الثاني: الفرق بين القول الشاذ والضعيف.
الثالث: هل تبنى شيخ الإسلام ابن تيمية أياً من الأقوال الشاذة؟