والنوع الثاني: انسحاب المنافقين بثلث الجيش يوم أحد، وهذا من أظهر الأدلة على إعلان المنافقين لكفرهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
ونحن حين نرجع إلى واقع المنافقين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لنتأكد من هذا التوصيف (إعلان الكفر) لا نجد ما يدل عليه، بل هو مخالف للواقع الذي كانوا يعيشونه، والشواهد على هذا عديدة، ومنها: وصف النفاق نفسه، فإن النفاق في الأصل يعني الخفاء والاستتار، فلوا كان المنافقون يعلنون كفرهم بين المسلمين فكيف يصح وصفهم بالنفاق إذن؟! ولهذا لما بين القرآن ما كانوا عليه من الكفر وسوء الطوية في سورة التوبة سمي هذا التبيان فضيحة، وسميت سورة التوبة بالفاضحة، والفضيحة تعني كشف المساوئ وإظهارها، فلو كان المنافقون يظهرون كفرهم فأي فضيحة حصلت إذن؟!
ومن يطالع القرآن يجده يحكي عن المنافقين الخوف والاستتار وعدم إظهار ما يكتمونه في صدروهم، ومن ذلك: قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيم}[التوبة:١٠١] , فهذه الآية دالة على أن المنافقين يخفون كفرهم بحيث لا يعلمهم الرسول ومن معه، ومن ذلك: قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُم * وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُم}[محمد:٢٩ - ٣٠]، فهذه الآية تدل على أن كفرهم غير ظاهر وإنما يمكن أن يعرف بالقرائن.
ومن ذلك قوله تعالى:{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُون}[التوبة:٦٤] , فهذه الآية غخبار من الله تعالى عن خذر المنافقين من إظهار القرآن لحقيقة ما هم عليه، فلو كانوا يظهرون الكفر علنا فبما مبرر هذا الحذر؟!
ومما يدل على ذلك: أنه نقل عن عمر بن الخطاب أنه لا يصلي على ميت حتى يصلي عليه حذيفة خشية أن يكون الميت منافقا، فلو كان المنافقون يعلنون كفرهم جهارا لما خفي على عمر، وهو الرجل القريب من النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كانوا يظهروا كفرهم لما كان العلم بأسماء بعضهم سرا خاصا بحذيفة رضي الله عنه.
وإذا طالعنا حال المنافقين وجدنا أنهم يتحملون مشاقا كبيرة، فقد كانوا يخرجون إلى الغزوات ويحضرون الصلوات وهي ثقيلة عليهم جدا كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانوا يظهرون كفرهم فلماذا ها التحمل كله؟!
والذي تدل عليه الأدلة الشرعية والتاريخية أن المنافقين حصل منهم إظهار لفكرهم، ولو لم يظهروا قولهم الكفري لما كانوا منافقين، ولكن هذا الإظهار لا يصل إلى درجة الإعلان به في وسط المجتمع، وإنما كان إظهارا خاصا في مجالسهم الخاصة وفي حوادث متفرقة، وكان يشهد هذه المجالس بعض المسلمين ممن لم يعلم بحالهم، ثم يخبر بعضهم النبي صلى الله عليه وسلم بما يقولوا، وهذا لا يسوغ لنا أن نقول إن ثمة إعلانا للكفر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة.